معادلاتُ المقاومةِ السائدةُ ورسائلُ العدوِ الخائبةُ
لعل الشعبين الفلسطيني واللبناني ومعهما مقاومتهما الباسلة، أكثر من باتوا يدركون حقيقة العدو الإسرائيلي، ويعرفون طبيعته وكيف يفكر، ويدرسون عقليته ويحيطون بنفسيته، ويستطيعون أن ينفذوا إلى أعماقه، ويفسرون تصرفاته، ويخمنون ردود فعله، ويتكهنون بقرارته، ويحددون اتجاه غدره ونوعية أهدافه، ويميطون اللثام عن مشاريعه ومخططاته، ويفضحون نواياه ويكشفون أسراره، ويتقنون لغته ويدرسون كتبه.
ولعلهم باتوا يعرفون يقيناً كيف يحبطون خططه ويفشلون مؤامرته، وكيف يتصدون لعدوانه ويردون على اعتداءاته، وكيف ينتقمون منه ويردعونه، ويثأرون لشهدائهم ويروون غليل أبناء شعبهم، وكيف يوجعونه ويؤلمونه، ويذيقونه من نفس الكأس ويجرعونه ذات المرار، ويفرضون عليه قواعد للقتال جديدة ومعادلاتٍ للمواجهة متوازنة، ويجبرونه على احترامها، ويخيفونه إذا حاول كسرها أو الاستخفاف بها وتجاوزها.
ولهذا فقد بات العدو يخشى الشعبين ومقاومتهما، ويحذر من المساس بهما، أو يحسب ألف حسابٍ قبل أن يُقدمَ على خطوةٍ تجاههما أو ضدهما، ذلك أنه أصبح يعرف المقاومة جيداً، ويدرك حقيقتها ويُلمُ بقدراتها، ويدرك طبيعتها العقائدية وتركيبتها العسكرية، وفلسفتها القتالية، ويعرف بنية رجالها وعزيمة أفرداها، وغاياتهم من القتال، وأهدافهم من المقاومة، وتطلعاتهم للثمن والجزاء والبدل والعوض.
وهو يعلم يقيناً أنه إن اعتدى على المقاومة هنا أو هناك، في غزة أو لبنان، فإنها سترد، فهي لا تقبل بالضيم، ولا تسكت على الظلم، ولا ترضى المذلة ولا تتجرع الهوان، بل ترد بالقيمة والقدر، وبالكيفية والمثل، حتى يرتدع العدو ويتعلم، وهو على يقينٍ تامٍ أنها حاضرة وجاهزة، ويقظة ومتحفزة، وقرارها حرٌ مستقلٌ، وسلاحها بين يديها، لا تنتظر إذناً من أحدٍ، أو موافقة من أي طرفٍ غيرها، وهو الأمر الذي ميزها بقوةٍ عن الأنظمة، وأطلق يدها بحريةٍ أكبر من الجيوش النظامية التي تكبلها القيود الرسمية.
لا شك أن العدو الإسرائيلي كان يعرف خطورة ما أقدم عليه، عندما قصفت طائرة عسكرية مسيرة سيارةً مدنيةً لبنانية، كانت قد عبرت الى الجانب السوري من الحدود اللبنانية السورية، ولعله كان يستطيع قصف السيارة وهي في الأراضي اللبنانية، إذ كان يتابعها ويعرف مسارها، ولكنه آثر أن يقصفها في الأراضي السورية، ليتجنب رد حزب الله وثأر المقاومة منه، وقد ظن أنه نجح في فرض سياسة جديدة، مفادها فصل جغرافيا البلدين المقاومة عن بعضهما، وعزل مسار الفعل العسكري فيهما، فأي استهدافٍ للمقاومة اللبنانية بعيداً عن الأراضي اللبنانية لا يستوجب من المقاومة الرد، وإنما عليها أن تمتص الضربة، وأن تقبل بالإهانة وتتجرعها، وإلا فإنها ستتعرض لردٍ أشد وغارةٍ أكبرٍ، تطال جسم المقاومة وبنية لبنان المدنية.
إلا أن حزب الله الذي أدرك اللعبة القذرة التي أراد العدو فرضها، وعرف مراده الخبيث منها، عمل منذ سنواتٍ طويلةٍ على إبطالها، وأثبت بقوة الفعل وسرعة الرد وجاهزية القرار، أن جسم المقاومة واحدٌ حيث كان، وأن الاعتداء عليها حيث يكون يستوجب الرد المتكافئ، فحرمة المقاومة لا تتأتى من المكان الذي ترابط فيه بعيداً عن أرضها أو فيها، بل من طبيعتها التي لا تقبل الخرق ولا الانتهاك، ولا توافق على الاستفراد والاستهداف، وهي التي تؤمن بوحدة الجبهات كلها في مواجهة العدو المشترك لها، ولهذا كانت الردود على العدوان في سوريا أو لبنان لا تتأخر، تباشر بها المقاومة ولا تتردد، وينتظرها العدو ويتيقن، ويتحسب منها كثيراً ويقلق، وهو يخمن أين ستقع ومن وكم ستصيب، وهل ستقود إلى مواجهة جديدة، أم سيكون الرد محسوباً ومدروساً.
فهم العدو الرسالة جيداً، التي أصابت الهدف ولم تخطئ العنوان، ووصلت إلى أكثر من مكانٍ، وآمن أكثر بقدرة المقاومة وجاهزيتها الدائمة، وأدرك أن الجائحة لم تشغلها والوباء لم يقعدها، وصدقها إذ قالت أن بيتهم أوهن من بيت العنكبوت، إذ نقبت من أكثر من مكانٍ جداره وقوضت بنيانه واخترقت حدوده، وأدرك رسالتها الصريحة الواضحة التي تقول، إن زدتم زدنا، وإن عدتم عدنا، وإن قتلتم قتلنا.
صُدمَ الإسرائيليون وجابهوا رئيس حكومتهم بنيامين نتنياهو، واتهموه بالعجز والفشل في كل الجبهات، فقد عجز عن وضع حدٍ لتغول وباء كورونا ومنع انتشاره في أوساط المستوطنين، ولم يستطع إلزام حلفائه المتدينين من الحريديم التقيد بشروط الوقاية، والالتزام بتعليمات وزارة الصحة واللجنة المشتركة، وادَّعى انشغاله بمواجهة الوباء وهو في الحقيقة يسعى للاحتفاظ بمنصب رئاسة الحكومة، وكرر أخطاءه الأمنية ضد حزب الله في سوريا ولبنان، ومكنه من الرد المشروع والانتقام المدروس، الأمر الذي ضاعف القلق على الجبهة الشمالية، التي قد توقد النار فيها مشاعلٌ لا تضيئ ونارٌ لا تحرق.
أحسنت المقاومة العربية عموماً، اللبنانية والفلسطينية، في كسر معادلات العدو القديمة، وإجباره على التراجع عنها، وقد كان فيها سيداً متفرداً، وظالماً قادراً، ومعتدياً دائماً، يضرب ولا يخاف، ويعتدي ولا يقلق، ويقصف ويعترف، ويقتل ويتبجح، حيث نجحت في فرض معادلاتٍ جديدةٍ، قوامها احترام قواعد القتال، فلا عدوان بلاد رد، ولا رد لا يتناسب مع العدوان، ولا تهاون في القتل، ولا سكوت عن الدم، ولا قبول بالترويع وفقدان الأمن، وهو ما برعت فيه المقاومة ونجحت، وما أدركه العدو وتجرعه، فعاد جباناً لا يغامر، وخائفاً من الرد يترقب، فلا تنام عيونه ولا تغلق جفونه، حتى تعلن المقاومة استكمال ردها، والوفاء بوعدها.
وسوم: العدد 873