الأمن الإسرائيلي.. جوهر صفقة القرن وعلى الفلسطينيين استثماره!
إن القارئ المتفحص لنصوص صفقة القرن وبنودها، يلمس جليًّا تكرار كلمة الأمن بصورة مبالغ فيها، بل تشكل الترتيبات الأمنية صُلب الجزء السياسي في الصفقة، ففي فهرس العناوين وحده، أُفرِد للأمن ثلاثة محاورٍ رئيسية، فشرع بالحديث عن أولوية الأمن لدولة إسرائيل، إذ صيغت الصفقة «بطريقةٍ تراعي الاحتياجات الأمنية والتهديدات الإستراتيجية المستقبلية للإسرائيليين، إضافةً إلى الفلسطينيين والمنطقة»، كما تدعي!
أما التناقض بين هذه الجملة العمومية وتفاصيل البنود، يتضح من تصور دولة إسرائيل الدائم لنفسها بأنها تواجه أعداءً يعملون على هدم أمنها وتقويض استقرارها، متجاهلة طبيعتها كدولة احتلالٍ واستعمارٍ استيطاني.
وهي في الوقت الذي تحذر فيه من خطورة قطاع غزة، وحكم حركة حماس له، وتؤكد على مطالبتها بأن تكون الدولة الفلسطينية منزوعة السلاح كي لا تمثل تهديدًا وجوديًّا لها، تقول إسرائيل بأنه من غير المنطقي مطالبتها بأي تنازلاتٍ أمنية، حتى لو كانت الولايات المتحدة هي من تطلب ذلك، نظرًا لوضعها الأمني المحفوف بالمخاطر.
وفي المحور الثاني التفصيلي لجزئية الأمن، يُحيلنا إلى ملحقٍ خاص للتحديات الأمنية التي تواجه إسرائيل، ومن هذه التحديات:
1- الطبيعة الجغرافية للضفة الغربية، بجبالها الممتدة من الشمال إلى الجنوب، إذ تخشى إسرائيل استخدام هذه البيئة لضرب أسس بنيتها التحتية، كمطار بن غوريون، وأماكن الصناعات التكنولوجية فيها، وشبكات الطرق، ومراكز المدن الكبرى، مثل: تل أبيب.
2- خشية إسرائيل من استغلال الحدود مع الأراضي الأردنية، لتوجيه الضربات إليها من قبل الدول أو الجماعات، ورغبتها في امتلاك خطوط إمداد وطرق نقل آمنة من وإلى مناطقها، لذلك فهي تحرص كل الحرص على ضم غور الأردن وفرض سيطرتها عليه.
3- الحفاظ على أمن مطار بن غوريون، من خطر الصواريخ المضادة للطائرات المحتمل توجيهها للمطار، والأماكن القريبة منه.
4- ضرورة السيطرة الأمنية – والجوية بشكلٍ خاص – على منطقة غرب غور الأردن، خوفًا من تعرضها لأي تهديدٍ لا تستطيع الرد عليه، نظرًا لضيق كل من الوقت والمساحة بالنسبة لإسرائيل، فلا يفصل بين نهر الأردن والبحر المتوسط عدا 40 ميلًا.
5- لا تغفل إسرائيل عن الدور الإيراني الآخذ بالتصاعد في المنطقة، بعد تزايد نفوذها في عددٍ من العواصم العربية، كما تخشى إسرائيل وصول التهديد الإيراني إلى أراضيها بطريقة مباشرة أو غير مباشرة عبر تمويلها لبعض الأطراف، كما تقول.
6- إيمان إسرائيل بضرورة دفاعها عن نفسها بنفسها بالدرجة الأولى؛ لذا فهي تحشد كل ما يمكن حشده من وسائل وأساليب لفرض هيمنتها الأمنية على كل ما ومن يحيطها.
بناءً على ما سبق، تتطلع إسرائيل إلى تعزيز التنسيق الأمني وتوثيقه مع السلطة الفلسطينية (إضافةً لدولتي مصر والأردن، والدول العربية الراغبة في السلام مع إسرائيل)، ووفق هذا، كتبت رؤية ترامب- نتنياهو.
كما تزعم إسرائيل أنها على استعدادٍ لتحمل الأعباء المالية المترتبة على تأمين الجانب الأمني، لتسمح للفلسطينيين باستثمار أموالهم لتطوير شؤونهم الصحية والتعليمية، وتحسين رفاهيتهم بدلًا من إنفاقها على الترتيبات الأمنية! كما أنها، وطبقًا لرؤيتها، تمنح الفلسطينيين المسؤولية الأمنية من أجل حماية أمنهم الداخلي والحفاظ عليه، لكن وفق معاييرها هي. وحين لا يلتزم الفلسطيني بواجبه الأمني تجاه إسرائيل، فإن من حقها التدخل لإعادة تشكيل الأمن، بما لا يهدد أمنها.
هذا يعني، أن دولة الاحتلال تريد اقتلاع الفلسطينيين من أرضهم، وتهجيرهم من بيوتهم، والاعتداء على مقدساتهم وأعراضهم، وارتكاب أفظع الجرائم بحقهم، لإحلال غيرهم مكانهم، إضافةً إلى تطوير قدراتها العسكرية، وعتاد قتالها، وتأمين هيمنتها الأمنية.. دون أن يحرك الفلسطيني (صاحب الأرض والحق) ساكنًا!
ثم تردف قائلةً: «إن الطرفين سيعملان معًا، بحسن نية، في الأمور الأمنية، لحماية الفلسطينيين والإسرائيليين على حدٍ سواء»!
كما تولي الصفقة أهميةً كبيرةً للساحة العربية الإقليمية، إذ تطرقت في المحورٍ الثالث للمبادرات الأمنية الإقليمية، بوصفها (فرصًا جديدة).
فبعد أن نجحت إسرائيل في خلق عدوٍ آخر لدول المنطقة لغض الطرف عنها، بات المستوى السياسي للدول العربية ينظر إلى الاحتلال الإسرائيلي بصفته صديقًا لا عدوًّا دخيلًا على المنطقة، وتحولت أنظارهم إلى إيران على أنها مهدد أمني استراتيجي، ليس على أمن إسرائيل وحدها فحسب، إنما على أمن الدول العربية كافة. وبناءً على تغير الرؤية، تغيرت السلوكيات والممارسات السياسية، فإن كان ثمة علاقاتٍ تربط الدول العربية مع إسرائيل أسفل الطاولة، فإنها اليوم تُجاهِر بها وتُفاخِر.
تهديداتٌ ومصالحٌ مشتركة
يركز الإعلام العبري اليوم، وكثيرٌ من وسائل الإعلام العربية، على ما يجمع إسرائيل والدول العربية معًا، فالخوف المشترك لكلٍ منهم من خطر الإرهاب المتمثل – من وجهة نظرهم – في حزب الله وحركتي حماس والجهاد الإسلامي، وكذا إيران، إضافةً إلى الخطر المحدق بحرية الملاحة في المضائق الدولية في البحر المتوسط والبحر الأحمر، يدفعهم إلى الإعلان عن توحدهم في سبيل مواجهته والتصدي له، أما الرغبة في تحقيق السلام والازدهار الاقتصادي لشعوب المنطقة، طموحٌ مشترك بينهم، كما يزعمون.
إن الدول العربية المفتقرة للشرعية، والمغرقة بلادها في وحلٍ من الفساد والفقر، تهرول إلى إسرائيل تحت ذريعة الخطر الإيراني، وحمايةً لأمنها القومي، لتسقطَ حقوق الشعب الفلسطيني ثمنًا لهذا العبث السياسي.
إذ تدعو الصفقة إلى «تشكيل منظمة للأمن والتعاون الإقليمي في الشرق الأوسط»، تكون إسرائيل أحد أعضائها، إن لم تتزعمها أصلاً!
إذن، من كون (الأمن) جوهر صفقة القرن، بل أحد أكثر العوامل حساسيةً وقلقًا للاحتلال الإسرائيلي، وبعد فقدان الأمل من تسويةٍ سياسيةٍ عادلة، وفقدان الثقة بالإدارة الأمريكية كوسيطٍ عادل، وتخلي الأنظمة العربية عن دعم القضية الفلسطينية، لا يتبقى أمام الشعب الفلسطيني من خيارٍ سوى المقاومة بنفسه، للدفاع عن أرضه، وحقه في الوجود.
المقاومة وفق استراتيجيةٍ نضاليةٍ وطنية، وذلك عبر استثمار عنصر الأمن، لتحويله من مهددٍ بالنسبة لإسرائيل إلى فرصةٍ بالنسبة للفلسطينيين، وللإجابة عن سؤال «كيف؟» فهذه بعض النقاط، والميدان مفتوحٌ لعقول الفلسطينيين.
1. قيام المقاومة في قطاع غزة بتوجيه الضربات للاحتلال بصورة مستمرةٍ ومنظمة، وعبر توافق فصائل العمل الوطني، فإن لم تستطع قوتها أو مدى قدرتها على إحداث الضرر المطلوب، فليشكل استمرارها وتنظيمها والتوافق عليها، عامل قلقٍ للاحتلال الإسرائيلي.
2. إيقاظ روح المقاومة في جسد الضفة الغربية، فإن لم تشكل البيئة العامة حاضنةً جيدة وداعمة للمقاومة، فلتكن مبادرات المقاومة الفردية خيارًا بديلًا لإزعاج العدو، مع ضرورة العمل على توعية الوسط المحيط بجدوى هذه العمليات، وجدوى فعل المقاومة واستمراريته؛ لاحتضان العمل المقاوم وتشجيعه، لا إحباطه وتقليصه.
3. التركيز على المقاومة الشعبية والمداومة عليها، لما فيها من فضحٍ لصورة الاحتلال الدموية أمام العالم، والعمل على استثمارها بشكل صحيح في المنابر الدولية، لإدانة الاحتلال وحشد التأييد العالمي لنصرة القضية الفلسطينية.
4. العمل على تفعيل دور فلسطينيي الخارج وتنشيطه؛ إذ تستطيع الجاليات الفلسطينية والعربية الموزعة في أنحاء العالم إحداث أثر كبير لدعم الشعب الفلسطيني، وذلك بتشكيل إطار جامع وممثل لفلسطينيي الشتات، يتولى مهمة نقل الرواية الفلسطينية الصحيحة ومواجهة الرواية الإسرائيلية، وينفذ الفعاليات التضامنية بشكل مستمر، وصولًا إلى محاولة الضغط على دوائر صنع القرار في تلك الدول، واستقطابها لصالح الشعب الفلسطيني.
5. المقاومة على الصعيد السياسي، إلى جانب العمل الميداني، وعدم التقليل من شأنها ومدى أهميتها، فبداية إسرائيل لم تكن عبر السلاح، وإنما عبر زيارة البلدان لجمع التأييد، وحشد المناصرين، وتأليف الكتب وعقد المؤتمرات للحديث عن أملهم في دولةٍ لهم، فكيف بمالك الأرض، وصاحب الحق، من تمارس بضده الجرائم والاضطهادات ليل نهار، من استهدافٍ واعتقالٍ وحصارٍ وتهجيرٍ بتضييق الخناق، والحرمان من أبسط الحقوق الإنسانية؟! ولذا، ينبغي على السلطة الفلسطينية التركيز على كل ما من شأنه نزع الشرعية عن الاحتلال، بتقديم صورته الحقيقية للعالم، وتشجيع حركة المقاطعة ودعمها، وإعلاء الصوت الفلسطيني في محكمة الجنايات الدولية، ومنابر الأمم المتحدة، فإن لم تنجح في محاكمة الاحتلال ومحاسبته، فلننجح على الأقل بإدانته أمام العالم، ولنبقي صوتنا مسموعًا.
أما الأهم من هذا كله، فهو العمل في جميع الميادين السابقة، جنبًا إلى جنب، دون تهميشٍ لأحدها أو تقليلٍ من شأن أخرى، فتطبيق الآليات السابقة معًا بتساوٍ وتوازٍ، ينتج استراتيجية فلسطينية نضالية وطنية قادرة على مقاومة الاحتلال ومواجهته.
وسوم: العدد 874