هل يمكن للأديان أن تتصالح؟
وأن تعيش بسلام؟
طريف يوسف آغا
برأي الشخصي فان الأديان السماوية الثلاث، اليهودية والمسيحية والاسلامية، ومذاهبها المختلفة، يمكن أن تتصالح وتعيش بسلام مع بعضها فقط في رحاب مدينة أفلاطون الفاضلة، أي وبمعنى آخر فهذا مستحيل، وتعالوا لنرى لماذا.
يخطأ من يفهم من مقدمتي أني ضد السلام وتعايش الديانات، فهذه الديانات كما أوضحت في مقال سابق هي متصالحة أصلاً مع بعضها كونها أتت من مصدر واحد. وهي أتت لتكمل بعضها لا لتتجابه، فلا أعتقد أن أحداً مهما كانت ديانته يعارض الوصايا العشر التي نزلت على موسى (ع) ولارسالة السلام التي نشرها السيد المسيح (ع) ولاالرسالة التي نزلت على محمد (ع) والتي أتت لتكمل مكارم الأخلاق. والدليل على أن هذه الديانات أتت أصلاً متصالحة مع بعضها أن لا المسيحية أمرت بقتل أتباع اليهودية التي نزلت قبلها إذا لم تؤمن بها، كما ولا الاسلامية أمرت بقتل أتباع المسيحية واليهودية، فكل ديانة جديدة كانت تدعو إليها أتباع الديانة التي سبقتها دون إرغام أو إكراه، بل وأمرت بحمايتهم وعدم إنقاصهم حقوقهم، إذاً فما الذي حصل ولماذا هذه العدواة؟
دعونا نبدأ الاجابة بوضع حقيقة لايختلف عليها أحد، حقيقة تتفق عليها كافة الأديان والمذاهب وحتى الحضارات، وهي أن (النفس أمارة بالسوء). هذه الحقيقة كافية وحدها للاجابة على السؤال في عنوان المقال، فالكثير من رجال الدين أنفسهم كانوا أول من انقلبوا على تعاليم دينهم الأصلية لأنها ببساطة حدت من سلطتهم ونفوذهم كما حدت من سلطة ونفوذ الحاكم المتحالف معهم. إذاً الجواب هنا هو (السياسة)، فأهل الحكم عادة لاتناسبهم تعاليم مثل (لاتسرق، لاتكذب، لاتظلم، ...) لأنهم في جلهم لم يستولوا على الحكم إلا ليسرقوا ويكذبوا ويظلموا. وهنا يأتي دور رجال الدين الذين اختاروا التحالف معهم ليفتوا ويبرروا لهم أعمالهم، فينالوا نصيبهم من الغنيمة. وقد لعب الكثير من رجال الدين اليهود ثم المسيحيين ثم المسلمين هذه اللعبة القذرة، كما لعبها من سبقهم من الكهنة في عصور تعدد الآلهة والقرابين التي سبقت أديان التوحيد السماوية المذكورة. وقد كانت أوربة سباقة إلى اكتشاف خطورة هذا التحالف الهدام للمجتمع بين طغاة الحكام وبين صغار النفوس من رجال الدين، فما كان منها إلا أن فصلت الدين عن الدولة، فسحبت غطاء (القدسية) عن الحاكم وعن المتاجرين بالدين، وجعلتهم معرضين للمسائلة فيما إذا خالفوا القانون. وقد تكرس ذلك بعد حدثين هامين في التاريخ الأوربي: حدث سياسي هو الثورة الفرنسية (1789) وحدث علمي- اقتصادي هو الثورة الصناعية (القرن الثامن عشر) وماتبعها من اكتشافات واختراعات.
إذاً فالعداوة التي نراها اليوم بين الأديان والمذاهب هي أصلاً من صنع البشر لتحقيق غاياتهم. فحين أرسلت أوربة حملاتها الصليبية على مدى قرنين بحجة (نصرة المسيحية)، كان الأحرى بها أن تقول بصراحة أنها إنما فعلت ذلك لتحتل الأرض وتلهي شعوبها الغارقة بالفقر والتخلف بحروب خارجية، فيرتاح الحكام من واجباتهم بحل المشاكل الاقتصادية لتلك الشعوب. وهذا ماحصل أيضاً عندما تم احتلال اليهود الصهاينة لفلسطين تحت شعار (إعادة بناء هيكل سليمان المقدس) والعودة للاستيطان في (الأرض الموعودة)، بينما كل مافي الأمر أن الأوربيين ضربوا عصفورين بحجر واحد حين تخلصوا من عبء اليهود الغير مرغوب بهم في بلادهم، فأرسلوهم ليغتصبوا أرض أعدائهم التاريخيين العرب ويقتتلوا مع بعضهم في حين هم يبيعوا الأسلحة للطرفين. وهاهو النظام الايراني اليوم يلعب نفس لعبة مزج السياسة بالدين حين يرسل المقاتلين الشيعة من دول مختلفة لقتال الأغلبية السنية في سورية وغيرها تحت راية (الثأر للحسين)، وهي الراية التي اقترب عمرها من 1400 سنة، وأيضاً تحت شعار حماية المراقد المقدسة، في حين أنه إنما يريد توسيع نفوذه الاستعماري على حساب دول الجوار واستعادة مجد امبراطوريته الفارسية ليس إلا.
إذاً لايمكن للحكام والساسة في العالم أن يسمحوا لأبناء الأديان والمذاهب المختلفة أن يتصالحوا ويتعايشوا بسلام، فهذا يحد من نفوذهم ويكذب أقوالهم ويكشف إدعاءاتهم بأنهم حماة الأقليات أو المدافعين عن المقدسات أو المستعيدين للأمجاد وغير ذلك من الهرطقات السياسية والشعارات الكاذبة. وقد شاهدنا كيف كان نظام حسني مبارك في مصر يرتب الاعتداءات على الكنائس القبطية ليتهم بها الاسلاميين فيبرر التنكيل بهم والادعاء أمام الغرب أنه حامي الأقليات. ونشاهد نظام الأسد كيف يقوم بقصف وتفجير سيارات مفخخة في مناطق مسيحية ودرزية ليتهم مقاتلي الثورة السورية بذلك لكسب دعم المجتمع الدولي وشق وحدة الشعب السوري، كما يقوم بصناعة واستيراد منظمات تكفيرية مثل (داعش) وغيرها واتهام الثورة بها لنفس الغرض. إن أسوا مايمكن لحاكم أو زعيم فعله هو القيام بعمل قذر كاحتلال أو إشعال حرب أهلية، وإلباس هذا العمل القذر قميص الدين أو المذهب. وعندي أن يقوم الحاكم أو الزعيم بعمله القذر هذا مع إعلان أهدافه وغاياته الحقيقية دون لف أو دوران لأشرف بكثير من قيامه به تحت راية الدين أو المذهب، وليس هناك بأفضل من بونابرت كمثال عن هؤلاء الذين غزوا وأحرقوا ودمروا، ولكنهم لم يفعلوا ذلك تحت راية نصرة الدين لتبرير أعمالهم.
النتيجة في النهاية أن السياسة وأهلها من جهة، والطمع والجشع الملازمين لطبيعة الانسان من جهة ثانية، كلها ستحارب أي تقارب وتصالح بين الأديان أو المذاهب إذا كان يضر بمصالحها. وبمجرد أن تبدأ بوادر هذا التقارب والتصالح، سنرى سيارة مفخخة هنا واغتيال هناك، وسيكون (ماكيافيللي) هو الحاضر الغائب بمقولته الشهيرة (الغاية تبرر الوسيلة). هكذا كان تاريخ البشرية، ويبدو أنه هكذا سيبقى: صراع دائم بين الخير والشر، بأي وسيلة وتحت أي راية مادامت تضمن تحقيق الغاية.