قراءة جيو ـ سياسية لتطبيع بن زايد مع «إسرائيل»
يوم أسود في تاريخ المنطقة، وعنوان آخر للسقوط والانحدار السياسي والقيمي. ومدخل جديد للصراع الداخلي في اوساط الأمة. ذلك ما يعنيه قرار دولة الامارات إقامة علاقات دبلوماسية علنا مع الكيان الإسرائيلي.
هذا القرار الذي أعلنه الرئيس الأمريكي في إحدى تغريداته يوم الخميس الماضي ثم أكده محمد بن زايد، يعتبر تحديا لعدد من الأمور: أولها: منطق الحق الذي يرفض الاعتراف بالظلم والنهب والاستيلاء على حقوق الآخرين، ابتداء بحق الحياة، مرورا بالوطن وصولا الى الحرية والكرامة. ثانيها: العرب والمسلمون قاطبة، فهناك إجماع لم يهتز برغم العمل الحثيث من قوى الثورة المضادة، على قداسة قضية فلسطين خصوصا أنها أرض الرسالات وملتقى الأديان وحاضنة المسجد الأقصى والارض التي باركها الله في قرآنه المجيد. ثالثها: أهل فلسطين، كبشر وشعب وأرض وتاريخ ونضال. رابعها: القانون الدولي الذي كان مرجعا لقرارات دولية تجرّم الاحتلال وتقر حق العودة والذي كان في حقبة ما سندا لقرار دولي يساوي بين الصهيونية والعنصرية. خامسها: الجامعة العربية التي كانت تلم كلمة العرب وتتصدى، ولو سياسيا ونظريا، للاحتلال الإسرائيلي وتجمع قدر الامكان الموقف العربي وتحتضن قضية فلسطين كقضية محورية جامعة. سادسها: مجلس التعاون الخليجي الذي يفترض أن يكون جامعا لدول الخليج الست ومنسقا لمواقفها، والذي يفترض كذلك ان يتوافق في مثل هذه القرارات المهمة. سابعها: مشاعر الأمة وأحاسيسها وكرامتها. فبرغم هزائمها العسكرية المتكررة الا انها صمدت بوجه الاحتلال عقودا وافرزت مجموعات مقاومة حطمت كبرياء الاحتلال وكشفت هشاشته عند مواجهة ابناء الامة. ثامنها: منح رئيس وزراء العدو دعاية مجانية برغم تحديه المتواصل للأمة والشعب الفلسطيني والموقف الدولي الرسمي، وتطرفه اليميني الذي شجع المتطرفين على اقتحام باحات المسجد الأقصى يوميا واقدم على ما لم يفعله سابقوه بضم أراض من الضفة للكيان المحتل.
رسميا ما يزال هناك «صراع عربي ـ إسرائيلي». ورسميا أيضا ما يزال هناك «مقاطعة عربية» للمنتجات الإسرائيلية. وطوال ثلاثة ارباع القرن بقي الصراع قائما، يشتد تارة ويخفت اخرى، ولكنه لم يختف يوما، ولا يتوقع أن يتلاشى تماما لسبب بسيط: أن الحق ينتصر والباطل مهزوم وإن طال به الامد. فليس لدى «إسرائيل» من مستلزمات الصراع سوى القوة العسكرية والأمنية، وتفتقد شرعية الحق وسند القانون والحجة المنطقية. فما الذي دفع حكام الامارات لتجاوز «الخطوط الحمراء» المرتبطة بالقضية المحورية للامة، لتتصدر قطار التطبيع مع كيان لم يخف اطماعه التوسعية يوما.
فقد أعلن احتلاله الكامل لمدينة القدس واستدرج أمريكا لنقل سفارتها الى المدينة المقدسة، ويواصل اتصالاته مع دول اخرى للقيام بخطوة مماثلة، يعتدي على الدول العربية وينتهك سيادتها بشكل مستمر (تونس، مصر، لبنان، سوريا، العراق). ومؤخرا أعلن الكيان على لسان رئيس وزرائه قرار ضم مرتفعات الجولان متحديا القرارات الدولية وفي مقدمتها 242 و 338. وفي غياب الموقف العربي او الدولي الرادع أعلن قراره ضم أراض من الضفة الغربية ايضا. ويتذاكى حكام الامارات عندما يدعون أن اقامة العلاقات الدبلوماسية مع «إسرائيل» جاء بعد أن حصلوا على وعود إسرائيلية بـ «تعليق» قرار الضم، وليس الغاءه. ولكن المسؤولين الإسرائيليين أعلنوا على الفور أنهم لم يعطوا وعودا لأحد بوقف الضم. وتجدر الاشارة الى ان من غير المستبعد ان يكون قرار اقامة العلاقات جاء انتقاما من الفلسطينيين الذين أعلنوا قبل اسابيع رفض «مساعدات» إماراتية وصلت عبر مطار بن غوريون. فقد فهموا، كما فهم غيرهم، ان تلك «المعونات» استخدمت لتغطية تسيير الرحلات الجوية بين ابوظبي وتل أبيب. يومها قال الفلسطينيون بإباء: نرفض المساعدات التي تأتي عبر الاحتلال، مؤكدين أن البطون الجائعة أكثر عفة وكرامة وإباء من ذوي الاجسام الممتلئة التي تختزن ارواحا خالية من المبادئ والقيم.
من اين بدأ هذا الصلف السياسي الذي يسعى لتحقيق احلام رموزه بتحدي الامة وثوابتها والتعدي على قيمها ومقدساتها؟ ربما ليس جديدا أن حكام الامارات اكثر الحكام العرب استهدافا للمشروع التحرري العربي ـ الإسلامي، فلم يطيقوا يوما الرموز الإسلامية خصوصا المحسوبة على اتجاه «الإسلام السياسي». ولكن كان هناك توقع بان يكون اغتيال الشهيد الفلسطيني، محمود المبحوح، قبل عشرة اعوام، بأحد فنادق دبي دافعا لموقف اماراتي متشدد ازاء الكيان الإسرائيلي الذي انتهك سيادتها، خصوصا بعد أن ثبت ضلوع جهاز «الموساد» في جريمة الاغتيال. يومها ارتفعت اصوات اماراتية تهدد بملاحقة القتلة اينما كانوا، ولكن ما ان اتضحت هويتهم، وأنهم إسرائيليون يحملون جوازات سفر مزورة عندما ارتكبوا الجريمة عن سبق إصرار وترصد، حتى تغيرت سياسة الدولة بشكل غير مسبوق. وفجأة بدأ حكامها يقتربون تدريجيا من الاحتلال. من الصعب تحديد نقطة البدء ولكن ربما كان «الربيع العربي» نقطة التحول في الموقف. فمنذ ذلك الوقت تشكل تحالف «قوى الثورة المضادة» واصبح للإمارات لسان طويل ودور يفوق اضعافا حجمها السياسي الطبيعي. فهي لا تملك من مقومات القيادة السياسية الاقليمية الكثير خصوصا مع ضآلة سكانها وحداثة وجودها السياسي الذي لم يبلغ الخمسين عاما حتى الآن.
يمكن القول ان السنوات العشر الاخيرة كانت حقبة تحول اماراتي غير مسبوقة. فمنذ وفاة الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان 2004 انتقلت السلطة الى ابنه الاكبر خليفة الذي توعكت صحته فاستلم اخوه، محمد بن زايد، الحكم منذ اكثر من عشرة اعوام. وقد تخرج من كلية سانت هيرست العسكرية البريطانية، الامر الذي جعل تفكيره «واقعيا» و «براغماتيا» وفق الرؤى البريطانية للسياسة. وقد تميز بطموحه الشخصي الواسع الذي دفعه للبحث عن سبل توسيع نفوذه السياسي الشخصي الذي اقتضى كذلك توسيع الدور الاماراتي اقليميا ودوليا. ودفعته نظرته «البراغماتية» لتجاوز جريمة اغتيال المبحوح واستخدامها طريقا لمد الجسور مع حكومة نتنياهو. ومن المؤكد ان تربيته العسكرية في المؤسسة البريطانية المذكورة أطرت تفكيره الذي أبعده تدريجيا عن ثقافته الموروثة من محيطه العربي والإسلامي، وزجت به في دهاليز الدبلوماسية المؤسسة على الانتهازية وتضخم الذات. وفي غياب الموروث السياسي العصري القائم على الحرية واحترام الحقوق والممارسة السياسية، أصبح اكثر تحسسا من اي تحرك داخلي يطالب بالحرية والانفتاح والحقوق. فسرعان ما انقض على معارضيه واعتقلهم ونكل بهم وأسقط جنسياتهم ونفى بعضهم الى دول قاصية مثل تايلاندا. وفي غياب التوازن السياسي بين الحكم والمعارضة تدهورت الأوضاع الداخلية خصوصا في مجال حقوق الانسان، وقضى بعض السجناء نحبهم وراء القضبان.
ومن المؤكد ان شعور محمد بن زايد بالعزلة السياسية في صفوف الطبقة المثقفة الاماراتية دفعه للاعتماد على الخبرات الامنية الإسرائيلية التي بدأت تشق طريقها الى الامارات بعد اغتيال المبحوح. وتواصلت مغامرات بن زايد، فتورط في قضايا اربع كل منها اكبر من الاخرى. اولى هذه القضايا المشاركة مع السعودية في اجتياح البحرين في عام 2011 لضرب واحدة من ثورات الربيع العربي. ولم تحدث ردة فعل مناسبة ضد هذا التدخل الغاشم الذي كان مدعوما من التحالف الانكلو-أمريكي بالاضافة للدعم الإسرائيلي. وفي العام 2017 استهدف التحالف السعودي ـ الاماراتي دولة قطر بسبب علاقاتها الخارجية مع تركيا وإيران، وتفاهمها مع جماعة الاخوان المسلمين. واخيرا جاءت خطوة إعلان التطبيع مع كيان الاحتلال الإسرائيلي.
ماذا يحدث في ابوظبي؟ وما مدى قوة محمد بن زايد الذي كسر النواميس والأعراف سواء على مستوى التحالف السباعي مع المشيخات الصغرى التي تشكل بمجموعها دولة الإمارات ام على الصعيد الاقليمي ام مجلس التعاون ام الجامعة العربية ام أمة العرب والمسلمين. فاندفاع محمد بن زايد لمبادرات خطيرة كاستهداف قطر او الحرب على اليمن او دعم خليفة حفتر لمنع استقرار ليبيا، تلك الخطوات تعبر عن اندفاع متغطرس سيرتد سلبا على المنطقة ويؤدي لأزمات خطيرة. هذه النظرة تدعمها سياسات محمد بن زايد التي كثيرا ما ادت لاضطراب ذهني لتفسير بعض الخطوات ذات الابعاد الخطيرة. فماذا يعني استقبال خوان كارلوس، ملك اسبانيا السابق الذي يواجه قضايا قضائية بسبب رشاوى من السعودية والبحرين ومنحه الاقامة في الامارات؟ برغم الهدوء الذي يحيط بخطوات بن زايد، إلا أن تبعاتها على المنطقة لن تكون سهلة.
وسوم: العدد 890