في ثنائيات الفكر والهوية ... مسلمون .. عرب .. وطنيون
ويعلم كل مفكر يفكر على الطريقة الإسلامية ، أن الثنائيات الكونية الكبرى كانت من بعض سلعة الفرس واليونان . تسربت إلى فكر المسلمين فتبناها مع الأسف بعض مفكريهم . النور والظلمة . والخير والشر .
وكل من قرأ سورة الكهف وسار تلميذا مثل سيدنا موسى ، مع الرجل الصالح علم أن الخير قد يكون بطانة للشر ، وأن الخير قد يكون في باطن الشر ، حتى يقول القرآن الكريم في تقرير هذه الحقيقة : ويدعو الإنسان بالشر دعاءه بالخير وكان الإنسان عجولا ..
ويزعمون أن فكر عصر النهضة وما تلاه من عصور التنوير والحداثة وما بعد الحداثة ، قد تجاوز كل هذه الثنائيات وراح يتعامل مع الإنسان والكون بالنظرة الواحدة المختلطة الموحدة على الطريقة السريالية التي تغيب فيها الوجوه والأشكال والملامح ، وتختلط فيها الألوان والألفاظ والتعابير والصور حتى تكاد تقول؛ إن لكل إنسان خطه ولونه وأبجديته وحروفه التي منها الصورة المعهودة أو المبتدعة التي ينتظر منك أيضا أن تتلقاها بمثل ما انطلقت عنه من مواطن الإدراك غير السمع والبصر والفؤاد ..!!
ومن هذا الواقع الفكري العائم الغائم والمختلط يعود إليك من يشبعك كلاما عن الحالة البوهيمية التي صار إليها الإنسان ، والذي ما زال يبشرك بعوالم أخر ى ؛ ليسألك بسذاجة الجدات والعمات والخالات : تحب أباك أو أمك أكثر؟!
أو يسألك على صعيد يظن نفسه فيه أنه الفهلوي الأول : أنت سوري أولا أو عربي؟! أنت سوري أولا أو مسلم ؟! أو يقول في سردية ثنائية مقيتة ومريبة ملغومة : " والتقت على المنصة كافة القوى السورية :الوطنية والإسلامية!!"
وكأن الأولى ليست من الثانية ، أو الثانية ليست من الأولى أو هذا هو الذي يريده المريب ..!!
في تاريخنا العلمي والفكري كان يتردد كثيرا على ألسنة العلماء عنوان "الأشباه والنظائر " فالشبيه هو الشبيه والنظير هو المقابل . وربما من الصعب علميا أن نقول النقيض . في تطور علم الرياضات وتحديدا في فضاء توسيم العلاقات ذكروا صورا للعلاقات كان أهمها : الانفصال والتقاطع والاحتواء ، وربما يجد بعض الناس في أفق الصيغتين الأخيرتين غنى لبعض ما يريد..
في حياتنا العملية كان باعة الأوعية النحاسية يدركون قاعدة الاحتواء جيدا حين يرصون هرما مرتفعا من هذه الأوعية بحيث يشكل الوعاء الأكبر القاعدة الأمتن وأرسخ ، فأي درس في هذا ؟! .
في إطار الحديث عن الهوية سنقع في فخ الثنائية المنبوذة إذا ذهبنا إلى المقارنة بين ثلاث هويات : هوية جبلية يمثلها القوم والعشيرة والجينات وطول القامة ولون البشرة والشعر والعينين ، وهوية مكانية يمثلها كما يقول العامة مسقط الرأس ، الدار والحي والبلدة والمدينة ووطن الطين . ثم ثالثا هوية فكرية عقلية ثقافية هي التي تجمع الناس بعضهم إلى بعض . بمن فيهم بالمناسبة أهل الحداثة أو ما بعد الحداثة مثلا مع أضرابهم من جمهور نتيفلكس تحت عنوان هوية الألفية الثالثة التي تقوم على عشق الفوضى ونبذ النظام في كل شيء ..
الصيغة الثالثة لهذه الهوية في تجلياتها المختلفة الدينية واللادينية ، وحدها هي الهوية الاختيارية التي يختارها الإنسان لنفسه ، ويظل يعمل للانتصار لها ، والدفاع عنها ، يوالي عمليا على أساسها ويعادي عليه ، يجذب وينبذ بالاتكاء عليه . وأي مراوغة عن هذه الحقيقة هي مراوغة وقتية تكتيكية وكلاسيكية بدائية وفجة . وإنما يراد من خلالها الالتفاف على عقبة كأداء يشعر بعضهم أنهم غير قادرين على اقتحامها ..
اليوم كنت أقرأ ميثاقا يزعم أصحابه أنهم وطنيون " جدا جدا " فيقررون أن فرض الأكثرية هويتها غير مقبول ...ولكن هؤلاء الوطنيون جدا جدا جدا لا يتحدثون عن فرض " الأقلية هويتها ومصالحها وامتيازاتها وحرصها على أن تنزع عن الأكثرية ثيابها ، فهذه الممارسة الواقعة مسكوت عنها أما الحالة المتصورة المتوهمة فهي التي يجب أن يسبقوا لإنكارها إثباتا لصدق الوطنية .!!
هؤلاء الوطنيون المفكرون الحريصون على الهوية ينسون أن الكيانات القطرية المفروضة على أمتنا كانت نتاج مؤامرة عالمية كبرى تمت منذ قرن من الزمان فقط ، وأننا مع حرصنا على هذه الكيانات واعترافنا بها كواقع يجب أن ندعمه ونقويه لننطلق منه إلى أفق أرحب وأقوى لنعيد الفرع إلى أصله . والجزء إلى كله .
اللعب على الألفاظ والأوتار بالطريقة المختلطة التي نتابعها لا تنفع أصحابها. بل لعلنا نقرر أن هؤلاء الذين يفزعون إلى كل الطروحات الكلاسيكية الطينية في أغلظ صورها ، ليسوا سذجا ولا كلاسيكيين أبدا بل هم أعظم مكرا وأبعد غورا حين يعوذون بقبضة الطين ليجعلوا منها بداية ونهاية وأولا وآخرا ووشعارا ودثارا ..
اليوم لم تعد " العروبة " هوية ، وأذكر يوم كانوا ينادون لينزعوا عنا ثوبنا الأول منذ قرن فقط :
تنبهوا واستفيقوا أيها العرب ... فقد طما الخطب حتى غاصت الركب
هم هم ، وهؤلاء أولئك . وتنقض عرى الهوية عروة . حتى لا نجد ورقة تين ولا توت .
في هويتنا تشتبك التجليات وتتماهى في وحدة واحدة لا تعرف تعدد الأقانيم: إسلامنا : عقيدة للتوحيد ، وشريعة للعدل ، تدعو إلى السواء وتتمسك به. وعروبتنا ثقافة تجمع ولا تنبذ ، ووطنيتنا انتماء للحضارة والثقافة .
تجل واحد موحد متكامل متضام ، لا يقابل أحدها بالآخر ، ولا يضرب بعضها ببعض إلا من كان صاحب غرض ، أو من كان في قلبه مرض . وعلى مثل هذا تبنى كل الدول في العالم الحقيقي ، وتأخذ أمرها بالجد الذي يليق الأمم والشعوب . وهذه دساتير الدول ، وهذه رايات الأمم ، وهذه قوانينهم الظاهرة منها والخفية ، وما خفي منها يظل الأعظم ..
لاشعب على ظهر هذه المسكونة يعيش بلا لون .. ولا طعم .. ولا رائحة ..كما يريدوننا أن نكون ..، وكيف واللون: لازورد شفاف ، أو أرجوان بطعم الشهادة .. والطعم : صبر أو نصر .. والنشر مسك وأقصى يضوع بركة وعطرا ..