على هامش لقاء الفصائل الفلسطينية
ماذا فهمت من خطاب الرئيس محمود عباس في اللقاء الذي جمع الأمناء العامين للفصائل الفلسطينية الأوسلوية سابقا في رام الله، والمقاومة والمعارضة في بيروت؟
بكلمة واحدة: الرئيس "عند حطة إيدك"، عدا ما أبداه من انفتاح على الأمناء العامين كافة، وعدا إعلان خيبة أمله في أمريكا مع إبقاء التأكيد على جلوسه في مربع التسوية، ومنه يمد يد التعاون مع الأمناء العامين في بيروت لخوض مقاومة شعبية (على قياسه حتى الآن) ضد الضم وضد "صفقة العصر".
أما كيف يقوِّم تجربة اتفاق أوسلو الكارثي، فكاد يقول بملء الفم إنه كان دوما على صواب، والمشكلة في تعنّت نتنياهو، وما جاء به دونالد ترامب من "حل" لم يبق له فيه شيئا. بل كاد يقول، لولا المناسبة، إنكم أنتم يا أمناء الفصائل كنتم على خطأ.
وبكلمة أيضا، لولا بقاء بصيص أمل (بصيص تعني حدا أدنى) في أن تأتي الخطوة الثانية بعد هذا اللقاء (الذي لا يخلو من حرج) باتجاه تصعيد المقاومة الشعبية إلى عصيان مدني، ومواجهة شعبية في الشوارع مع الاحتلال والمستوطنين، على غير قياس محمود عباس في المقاومة الشعبية، لما استحق هذا اللقاء أن يُرحب به، أو أن يقوّم بإيجابية، ولا سيما بعد إشارته بالحفاظ على الأمن ومنع فوضى السلاح (جرعة مخففة من "التنسيق الأمني").
المشكلة في خطاب الرئيس محمود عباس أنه يريد من وحدة الفصائل أن تحشر "المشروع الوطني الفلسطيني" في مربع القرارات الدولية، والمسماة زورا بالشرعية الدولية، وكلها تعترف، بشكل أو بآخر، بشرعية الكيان الصهيوني، وذلك ابتداء من القرار رقم 181 لعام 1947، والذي تخلت عنه القرارات اللاحقة بعد 1967، لتعترف بما حصل من نتائج حرب 1948: نكبة فلسطين واحتلال 78 في المئة من أرض فلسطين بزيادة 24 في المئة مما أعطاه قرار 181 للكيان الصهيوني، وإقامة ما سمي بدولة "إسرائيل"، وتهجير ما يقارب من ثلثي الشعب الفلسطيني (اقتلاعه وتهجيره بقوة السلاح وبإرهاب المجازر). ثم يأتي الشرح هنا:
أولا: يجب التفريق بين قرارات صادرة عن هيئة الأمم وبعضها مخالف لميثاقها مثلا القرار 181 لعام 1947، إذ ليس من حقها أن تقسم فلسطين من جهة، وبين القانون الدولي الذي لا يعترف بكل ما أحدثه الانتداب البريطاني (1917-1948) من تغيير سكاني أو جغرافي في فلسطين (أي الهجرة اليهودية والاستيطان)، ويحصر حق تقرير المصير بالشعب الفلسطيني الذي كان يسكن فلسطين عام 1917 عام حلول الاستعمار من جهة أخرى.
ثانيا: الكيان الصهيوني لم يعترف، ولا يعترف بما يسميه محمود عباس "الشرعية الدولية"، أما الدول الكبرى التي كانت وراء قرارات الشرعية الدولية فتعترف بها لفظا، ولا تسعى لتطبيقها، ولا تطالب بها. بل تخلت عنها عمليا عندما اعتبرت أن "حل الدولتين" يقرره التفاوض المباشر، وهي تعلم أن الطرف الصهيوني لا يعتبر القرارات الدولية مرجعية، أو أساسا للتفاوض، مما يعني أن الدول الكبرى أيضا لم تعد متمسكة بهذه الشرعية إلاّ شكلا.
ومن ثم بأي منطق يريد محمود عباس أن يجر كل الفصائل إلى التورط في دخول مربع "الشرعية الدولية"؟ وهو ما لا يحق لأي منها أن تدخل فيه. لأن مَنْ دخلوه، أول مرة، حاولوا تغطية هذا الخطأ الاستراتيجي بحجة "دعونا نجرّب لعل وعسى". أما اليوم فلا يحق لمحمود عباس أن يجرب المجرّب، ويصر عليه. ثم ما هو حال من يجربه من جديد حتى لو كان عقله مخربا؟
لقد آن الأوان، على ضوء التجربة التاريخية لمنظمة التحرير الفلسطينية من قرارات المجلس الوطني لعام 1974 حتى اليوم، أن تخرج حركة التحرير الوطني الفلسطينية من مربع ما يسمى بالشرعية الدولية ومربع البحث عن حلّ للقضية الفلسطينية غير حلّ ميثاقيْ "م.ت.ف" 1964 و1968؛ باعتباره الحلّ العادل للقضية الفلسطينية من جهة، وباعتبار كل التجربة التاريخية لإيجاد حل كانت فاشلة وغير واقعية ابتداء من قرارات هيئة الأمم، مرورا بالحلول التي طرحت على اختلافها، وفي الصدارة حلّ الدولتين من خلال "اتفاق أوسلو"، وصولا إلى الحل الذي طرحته "صفقة القرن" والردود الدولية والعربية عليها، ثم ما بين هذا كله حل الدولة الواحدة الوهمي، أو حل تفكيك نظام الأبارتايد الأكثر وهمية، من جهة أخرى.
باختصار، لا حل للقضية الفلسطينية غير حل ميثاقيْ 1964- 1968، أي حل تحرير فلسطين من النهر إلى البحر. وإذا قيل إن هذا الحل غير ممكن الآن، حسناً إذن لنعترف بأنه لا حلّ الآن للقضية الفلسطينية. ولماذا نريد حلا غيره؟
هذا يعني أن نتعايش مع اللا حلّ كما تعايشنا معه منذ وعد بلفور والانتداب البريطاني حتى اليوم، وكما سيكون الحال لأمد طويل، أو متوسط القرب أو البعد. نعم نتعايش على صفيح ساخن، وضمن ما تقرره موازين القوى، ويُفرض من حروب، ومن هدن، ومن اعتداءات، وأشكال مقاومة. هذا ولدينا الحال الراهن في قطاع غزة والقدس والضفة الغربية ومناطق الـ48، وحيث اللجوء والهجرة.
الحلّ الوحيد الذي حمله ويحمله المشروع الصهيوني منذ نشأته حتى اليوم والغد، هو اقتلاع كل الشعب الفلسطيني، وإحلال المستوطنين اليهود والصهاينة في كل فلسطين، بزعمٍ مزوّر بأنها "أرض إسرائيل". ومن يفكر في غير هذا فهو واهم، ولم يعرقله، أو يحدده، أو يتحكم بزمانه، إلاّ قانون موازين القوى والقدرة على التنفيذ وإمكان ذلك.
وهذا القانون الأخير هو الذي ينطبق على حلّ ميثاقيْ 1964-1968. وهو الذي ينطبق على مجريات الصراع وحال التعايش على الصفيح الساخن كذلك. ولا يستطيع أحد من دون فهم المشروع الصهيوني أن يفسر لماذا فشل حلّ الدولتين مع كل ما قدمه محمود عباس من تنازلات؛ ابتدأت بالاعتراف بالكيان الصهيوني على 78 في المئة من فلسطين، وما استتبعه من تنازلات في عهده حتى بلغ السيل الزبى بحلّ "صفقة القرن".
لهذا ما ينبغي لمحمود عباس أن يسعى ليأخذ معه فصائل المقاومة إلى مربع التسوية و"الشرعية الدولية". ويكفي أن يؤخذ من كل خطابه بند واحد هو لجنة تطوير المقاومة الشعبية باتجاه الانتفاضة والعصيان المدني طويلي الأمد، إلى أن يفرض على الاحتلال أن يرحل وتفكك المستوطنات من الضفة والقدس وبلا قيد أو شرط، ليقوم "تعايش" جديد على صفيح ساخن في ظل موازين القوى الجديدة التي تتسّم بـ:
(1) ضعف عام أمريكي- غربي في ميزان القوى العالمي.
(2) تعدد قطبية عالمية في حالة تشيه الحرب الباردة.
(3) هزائم الجيش الصهيوني في أربع حروب، وانسحابه من جنوبي لبنان وقطاع غزة بلا قيدٍ أو شرط.
(4) انهيار دور النظام العربي (للأسف)، ولكن مع سمتين مهمتين:
أ- عدم القدرة على التحكم بالقرار الفلسطيني.
ب- هرولة بعض الدول للتطبيع يضعفها، ولا يقوي الكيان الصهيوني.
(5) الوحدة الوطنية الفلسطينية ضد الضم وصفقة القرن، والأمل في التحوّل إلى الانتفاضة، بما قد يفرض دحر الاحتلال وتفكيك المستوطنات.
(6) محور المقاومة الذي أفقد الكيان الصهيوني سيطرته العسكرية، ونقل الصراع معه ومع أمريكا إلى مرحلة شبه التوازن الاستراتيجي، أو شبه توازن الردع الاستراتيجي.
من هنا، وعلى الضد مما توحي به "صفقة القرن" وهرولة بعض الدول باتجاه التطبيع كأن القضية الفلسطينية في طريق التصفية، فإن ما شهده لقاء رام الله- بيروت من توجه فلسطيني نحو الوحدة ضد "صفقة القرن" وضد الضم، يمكنه أن يُطوّر إلى انتفاضة شاملة موجهة ضد الاحتلال والاستيطان تُحدث تغييرا في ميزان القوى، وتجعل الأرض تميد تحت أقدام نتنياهو- ترامب.
وسوم: العدد 893