الدَّعوة إلى "الإسلام"
الدَّعوة إلى "الإسلام"
د. محمد عناد سليمان
جمعني لقاء عابر بصديق لا أعرف عنه الكثير؛ وكان قد أحضر معه شخصًا آخر قال عنه: «هذا أخ فرنسيّ اعتنقَ الإسلام». ولا شكَّ أنَّ في عبارته هذه بالنِّسبة إليّ الشَّيء الكثير، ومعاني تحتاجُ إلى صفحات متعدِّدَة لتبيان ما فيها، اختصرتها بقولي له: «بل قل: عاد إلى الإسلام، ولم يعتنقه».
وقولنا: «عاد إلى الإسلام» تصحيح لما ثبتَ في الأذهان من أنَّ «المسيحيَّة» ديانة مستقلَّة، وهو خلاف ما عليه النَّصّ القرآنيّ نفسه، الذي بيَّن في غير موضع أنَّها «طائفة» وليست «ديانة»، كما نصَّ على أنَّ هذه «الطَّائفة» قد جاءها رسول الله عيسى u، ليبلِّغها دين «الإسلام» وهو «التَّوحيد»، لا يشركون بعبادة الله أحدًا، فقال تعالى: ]وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُواْ اللّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللّهُ عَلَيهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ}المائدة: 72، وهي دعوة الأنبياء والمرسلين قبله وبعده، فقال تعالى: ]مَّا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلاَنِ الطَّعَامَ انظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الآيَاتِ ثُمَّ انظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ}المائدة: 75، وقال تعالى:]وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ}الأنبياء: 25.
لكنَّ هذه «الطَّائفة» أبتْ كما الحال عند «العرب» إلا أن تغلوا في «الدِّين»، وأن تتقوَّل على الله ما لم ينزِّل به سلطانًا، فجعلوا من «عيسى» u إلهًا، وقد بيَّن «القرآن الكريم» حالهم هذه فقال تعالى: ]يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ وَلاَ تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ إِلاَّ الْحَقِّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ فَآمِنُواْ بِاللّهِ وَرُسُلِهِ وَلاَ تَقُولُواْ ثَلاَثَةٌ انتَهُواْ خَيْراً لَّكُمْ إِنَّمَا اللّهُ إِلَـهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَن يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَات وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَفَى بِاللّهِ وَكِيلاً}النساء: 171.
ولا شكَّ أنَّ ابتعاد كثيرٍ من العلماء قديمًا وحديثًا عن هذه المعاني الواردة في كتاب الله عزَّ وجلَّ جعلتهم يسيرون في طريق آخر بعيدٍ كلَّ البعد عن الفهم الحقيقيّ المراد من هذه الآيات وغيرها، تمثَّل فيما أسميناه «عنصريَّة» دينيَّة، جعلت من «العرب» أصحاب «الإسلام» الذي يرونه دينًا جديدًا بدأ مع بعثة محمَّد e، وهو تحريف للمعاني، وتحميلٌ للألفاظ ما لا تحتمل، وإخراجها من سياقها العام الذي وردتْ فيه، جعلتهم يتبنُّون مصطلحات تشوِّه «الإسلام» أكثر ممَّا تخدمه وتنصرُه، ولعلَّ قولهم «دخل الإسلام» أحدها.
لذلك وجدنا كثيرًا من «العلماء» و«الفقهاء» و«الأئمَّة» ينصُّون على أنَّ من يريد الخروج من «الشَّرك» ليعود إلى «التَّوحيد» الذي هو «الإسلام» أنَّ يشهدَ أن لا إله إلا الله وأن محمَّدًا رسول الله e.
وإذا كان هذا الأمر بنصِّه ملزمًا للطَّائفة «العربيَّة» التي أُرسل إليها محمَّد بن عبد الله e، فإنَّه ليس ملزمًا للطَّوائف الأخرى كـ«المسيحيَّة»، و«اليهوديَّة»، وحسبها أن تقول: أشهدُ أن لا إله إلا الله، وأنَّ عيسى رسول الله، أو أنَّ موسى رسول الله، مما يجعلها موحِّدة غير مشركة بعبادة الله أحدًا، وهي بذلك تحقِّقُ الغاية التي من أجلها أُرسل الأنبياء والمرسلون.
ونعلمُ أنَّ من لم يتدبَّر كلام الله سبحانه وتعالى في كتابه العزيز سيجدُ في قلبه غلظةً من هذا القول، وسيتّخذ منه بابًا للطَّعن بكاتبه، وذريعة للوصف بشتَّى أنواع الاتِّهام التي اعتدنا عليها من «زندقة»، و«تكفير»، و«رفْضٍ» وغيرها، وحسبنا في ذلك للرَّد عليهم آية شافية كافية يقول تعالى فيها: ]قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} آل عمران: 64.
إنَّ لفظ «قل» في أوِّلها خطاب مباشر للنَّبيّ محمّد e، بما لا يترك مجالاً للتَّأويل، وتحميل اللَّفظ مالا يحتمل، وفي ذلك يقول «الرَّازيّ»: «واعلم أنَّ النَّبيّ e لما أورد على نصارى نجران أنواع الدَّلائل وانقطعوا، ثم دعاهم إلى المباهلة فخافوا وما شرعوا فيها، وقبلوا الصّغار بأداء الجزية، وقد كان u حريصًا على إيمانهم، فكأنَّه قال تعالى: يا محمَّد اتركْ ذلك المنهج من الكلام، واعدل إلى منهج آخر يشهد كلّ عقل سليم، وطبع مستقيم أنَّه كلام مبنيُّ على الإنصاف وترك الجدال».
و«كلمة السَّواء» التي تعني العدل والإنصاف فسَّرها سبحانه وتعالى في الآية نفسها، وهو الاتِّفاق على توحيد الله عزَّ وجلَّ، وعبادته لا يشركون به شيئًا، «عربًا»، و«مسيحييِّن»، و«يهود»، ويؤيِّدُ أنَّ المراد هو «الإسلام» قوله تعالى في نهاية الآية: ]فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ}، وهذا دليل آخر يؤكِّدُ ما ذهبنا إليه في مقالات سابقة من أنَّ «الإسلام» هو «التَّوحيد» ولا شيء آخر على حسب المفهوم القرآنيّ.
وهذه الآية وإن كانت تشير إلى «الفريقين» كما ذُكر في أسباب نزولها من أنَّ اليهود قالوا للنَّبيّ e: ما نريدُ منك إلا أن نتَّخذك ربًّا كما اتَّخذت «النَّصارى» عيسى u. وقالت «النَّصارى»: يا محمَّد ما تريد إلا أن نقول فيك ما قالت «اليهود» في «عزير»، إلا أنَّ الرَّاجح أنَّها مختصَّة بـ«النَّصارى» لدلالة السِّياق السَّابق لها عليهم؛ وتخصيصهم في الآية بثلاثة أشياء: عبادة غير الله، والإشراك به، واتِّخاذهم «الأحبار» أربابًا من دون الله. وخطابهم بـ«أهل الكتاب» كما يقول «الرَّازيّ»: «من أحسن الأسماء، وأكمل الألقاب، حيث جعلهم أهلا لكتاب الله».
ولا شكَّ أنَّ هذا الفهم سيؤدِّي إلى فهم آخر يتعلَّق بـ«العبادات»، وهو فهم لم يغفله «القرآن الكريم» نفسه، قد نوضِّحه في مقال آخر، ممَّا يجعل من قول بعضهم لـ«المسيحيّ»، أو «اليهوديّ»: «دخل في الإسلام»، نوعًا من المغالاة التي لا مبرِّر لها، نظيرها في ذلك ما نسمعه مرارًا وتكرارًا من بعض العلماء وغيرهم بالدُّعاء على «الكنيسة» وأماكن العبادة الأخرى أن تتحوَّل إلى «مساجد» في مظهر آخر من مظاهر «العنصريَّة الدَّينيَّة»، ونوعٍ ثانٍ من أنواع المغالاة، وكأنَّهم لم يقرؤوا قوله تعالى: ]وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ}الحج: 40، حيث تشير إلى ضرورة أن تكون هذه المواضع أماكن عبادة يُذكرُ اسم الله فيها، والسَّعيُ إلى تحقيق ذلك، ولا إشارة إلى هدمها، أو تحويلها إلى «مساجد».