رجال اللحظة، الرجال .. الرجال الذين ينتظرهم المشهد السوري ..
وقال أبو الطيب :
يرى الجبناءُ أن الجبن حزم ..
وقال :
على قدر أهل العزم تأني العزائم ..
ويظن بعض الناس أن الإنجاز إنما يتحقق دائما بفعل "الألف ألف" من الرجال أو من المال ... وإن يظنون إلا غرورا. وقد فنّد ابن خلدون في مقدمته أسطورة أن يسير أو بسيّر جيشٌ " بألف ألف " تفنيدا عقليا موضوعيا وأسقطه ونفاه ، ونسبه إلى المبالغة التي يألفها عامة الناس .
وفي كثير من محطات التاريخ يكون النصر للقلة الواثقة المؤمنة الصابرة المحتسبة. و " كم " في قوله تعالى ( كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ ) هي كم التعجبية التي تفيد التكثير ، وليس كم الاستفهامية التي تسأل عن الكم العدد ..
وعنوان هذا المقال " رجال اللحظة " مقتبس من محطة من محطات تاريخ التأسيس لأمريكا الحديثة ، في حرب استقلالها ضد عسكر الإمبراطورية البريطانية العظمى .
في "كتاب الحلم والتاريخ ، يذكرنا الكاتب الفرنسي " كلود جوليان " أن ثورة تحرر الأمريكيين ضد الإنكليز بدأت في لحظة ، برجال تجمعوا في لحظة ، وتواثقوا على ميثاق في لحظة . سبعون رجلا من الأمريكيين تجمعوا في لحظة واحدة من لحظات صنع التاريخ ، تاريخ الولايات المتحدة ، وسموا أنفسهم لحظتها ، رجال الدقيقة " minutemen " ثم وضعوا لأنفسهم ميثاقا تواثقوا عليه ، ثم خاضوا حربهم حرب التحرير تحت لوائها حتى انتصروا فيها ....
أحكي هذا فقط لأسهل الأمر على الذين يستعظمونه ويتهيبونه من رجال الساحة الممسكين باللحظة والساعة واليوم والشهر والعام من السوريين.. أخاطبهم على اختلاف انتماءاتهم وتوجهاتهم ، وأن الأمر، على عظمته ومشقته ، ليسير على من يسره الله عليه ؛ فهلموا إلى العمل أيها العاملون...
والجبن ليس حزما ، والتردد ليس رأيا ، والإحجام ليس قرارا ، والتشاغل، والناس يعقدون عقد إعدامنا، ليس بخيار الراشدين..
ولو صار الأمر لأعداء الإنسان لقتلوا في سورية كل من يفكر ومن يقدر ومن يدبر ومن يوقر ( وسحلوا / 1980 أحد زملائنا من مدرسي اللغة العربية على قفا رأسه من بيته في الدور الخامس ، وهو يقول لهم : ويحكم أنا بعثي .. أنا رفيق .. ومات البعثي الرفيق من الرطمة على الدرجة العاشرة أو العشرين .... يقول له الفدم الغليظ من كتبكم جاءنا البلاء !! قائمة الحُرم على الكتب الممنوعة سقطت في الفاتيكان في ستينات القرن الماضي ، وكانت أطول قائمة حُرم على الكتب في العالم وتليها قائمة زمرة الأسد وما تزال معلنة حتى اليوم ..
سوريتنا اليوم .. عروبتنا اليوم .. إسلامنا اليوم ، ينادون علينا : وأنا على ظهر الغول .. والغول بدو يأكلني ..
ويا هند ويا هنود .. ويا مسك .. ويا عود .. أخوكِ المسكين .. سنّوا له السكاكين ..
رجال الدقيقة ، يجتمعون في دقيقة ، يحددون ما يريدون في دقيقة ( لا لتّ ولا عجن ) ويصنعون التاريخ في دقيقة ..وتنتصر القلة القليلة على الكثير المدججين في لحظة ، ومهما طالت هي لحظة ، وهكذا نقول يوم اليرموك ، ويوم القادسية ، وما هي بيوم بل أيام طال فيها الصراع وحمي الوطيس .
في تاريخنا الإسلامي صور كثيرة للرجال والنساء ..من رجال ونساء اللحظة، الرجال الذين تصنعهم اللحظة بكل معطياتها وتحدياتها وكيفما تقلبت بهم الحال ..
في بيعة العقبة الثانية اجتمع للحظة سبعون رجلا وامرأتان ..
وكان خالد بن الوليد رضي الله عنه يوم مؤتة "رجل اللحظة " وهو يدبر لانسحاب المسلمين المشرف من المعركة ..
واسترفد عمروُ بن العاص في فتحه لمصر عمرَ بن الخطاب رضي الله عنهما ، بأربعة آلاف رجل ، فرفده بأربعة رجال ، قال : هم خير لك من أربعة آلاف ، وقد آثرتك بهم على نفسي . فكانوا مع عمرو رجالَ اللحظة الذين أنجزوا الفتح وقعّدوا للإدارة والثاني أصعب وأكثر تعقيدا ..
وفي فتوح الشام ..
في اليوم الأول من معركة اليرموك ، ضغط الرومُ المسلمين ضغطة شديدة ، حتى قيل انكسروا ؛ فلما أصبحوا من غداة ، وقف سيدنا عكرمة وسط الناس ونادى : من يبايع على الموت ، فبايعه سبعون من فرسان المسلمين ، فحفروا لأنفسهم في الأرض ، وانغمسوا فيها كل واحد حتى منتصفه ، لا يمر فرسان العدو إلا على جثته ، حتى ردوا هجمة الروم الأولى وكانت الكرة من بعد للمسلمين..
رجال الدقيقة أو رجال اللحظة ، ليسوا بالعدد الكثير، ولا بالعدة الوافرة ، ولكنهم رجال الرأي والحزم والعزم والتفكير والتدبير والمبادرة والإقدام؛ شعارهم دائما : لا يركنن امرؤ إلى الإحجام .. يوم الوغى متخوفا لحمام
وفي علم الإدارة يقررون : أن اللاقرار أسوأ قرار . والصمت ليس درعا ولا حصنا يحتمي به العاجزون . والانتظار بمنعرج اللوى موقف المغرورين :
أمرتهمُ أمري بمنعرج اللوى .. فلم يستبينوا الرشد إلا ضحى الغد
أتذكر في ستينات القرن الماضي وعدد تنظيم جماعة الإخوان المسلمين في حلب بعد إعادة تأسيسه لا يتجاوز العشرات – ولعله سر أكشفه – وكنا نشاغل النظام وأجهزته المدججة في المدرسة والجامعة والدائرة والحي والمسجد والصحيفة ..
وأتذكرنا في السبعينات ، في حلب التي أعرف نحو – 200 نقيب – فقط ونهزم قوائم حافظ الأسد في الانتخابات، وننصر قائمتنا الشعبية في المدينة والريف ، وكان الرائد أو المقدم عادل حج مراد الناصري في قائمتنا الشعبية مع الدكتور زين العابدين خير الله، والشيخ إبراهيم سلقيني وآخرَين، ويضيق الطاغية بأنشطتنا الدعوية والفكرية والثقافية حتى لا يدري هو وأجهزته الأمنية كيف يموء ، فيعتقل ويسجن ويتهدد ..
ليس سرا أن أكشف للسوريين أن جماعة الشيخ مروان حديد رحمه الله ، ولا أتجمل بادعاء الانتماء إليها ، كانوا فقط عشرات من الرجال سقفهم أصابع يد واحدة ، وشاغلوا النظام وأجهزته الأمنية ومَن وراءها خمس سنوات .. وتركوهم يخبطون خبط عشواء ، مرة يتهمون الكتائب وأخرى يتهمون بعث العراق ، ولولا خرق قدري ، ما علموا من أين تنزل عليهم السهام .. وما أتحدث إلا عن الفترة بين 1975 - 1979
أقرر كل هذا وأنا أرى السوريين في مشهدهم ، مع الكثرة اليوم ، حائرين بائرين :" عيّوا بأمرهم كما عيّت ببيضتها الحمامة "
بعضهم ينتظر جيفري ، وبعضهم يأمل من بيدرسون ، بعضهم يرنو إلى الأمم المتحدة ، وبعضهم ينتظر ما تجيء به موسكو ، بعضهم يحلم بأستانا وبعضهم في الذم والقدح يبدئ ويعيد ..وبعضهم يرى أن المخرج في قواعد العشق العشر أو مواثيق ورقة العشرين ..!!
ومائة سوري من أهل الحزم والعزم يبتدرون اللحظة ، ويتقدمون الركب ، ويقولون للسوريين كل السوريين : نحن فئتكم ..والأسد وزمرته عدوكم، وحين عجز الجن عن إدراك موت نبي الله سليمان ، دلتهم عليه دابة الأرض تأكل منسأته ..!!
وفي البدء كانت الثورة حت وتعرية وقضم ونقض .. وإنما خدعنا من زين لنا غير هذا من شياطين الإنس والأنس
وقد علم أهل الرشد أنهم ما أرادوا بنا خيرا منذ "كردسونا " كراديس وفصائل ، وتحت رحمة طيرانهم مجتمعين ومتفرقين بيّتونا ..ولكل من كراديسنا وقت معلوم ..
انظروا إلى كراديسنا كأن لم تغن بالأمس ، ولم يكن ذلك عن جبن ولا عن وهن ولا من ضعف عزيمة ، وإنما كان من قصور رؤية ، وضعف تدبر ، وقلة تدبير ..
وذهبنا مع المانحين حيث أرادوا فما أغنى عنا الاسترسال مع المانحين .. وما زالوا مع المانحين يسترسلون ...!!
وسوم: العدد 901