وقفة مع زعم الرئيس الفرنسي أن الإسلام يعيش أزمة على الصعيد العالمي
عندما نقف عند العبارة الصادرة عن الرئيس الفرنسي في حق الإسلام وهو يزعم أنه يمر أو يعيش أزمة على الصعيد العالمي ،نجزم أنه إما حاقد عليه أو جاهل به أو شيء من هذا وذاك . أما الحقد عليه فتدل عليه مؤشرات منها رزمة القرارات التي اتخذها من أجل التضييق على الجالية المسلمة المقيمة في بلاده ، وأما الجهل به فله ما يبرره ،ذلك أن معظم المسلمين يقتصرون في معرفة دينهم على المعلوم منه بالضرورة ، فكيف ستكون معرفته به وهو الذي لا علاقة له به ؟
إن الذي يتجرأ على إصدار حكم على دين الرسالة الخاتمة للعالمين لا بد أن يكون قد أنفق من عمره سنين طويلة لمعرفة هذا الدين حق المعرفة وإلا كان حديثه عنه ضرب من الظن و الوهم .
ولا شك أن الذي حمل الرئيس الفرنسي على المغامرة بالتقوّل في الإسلام هو انطلاقه من واقع الهوية الإسلامية في بلاده لتعميم حكمه، ذلك أنه يراها عبارة عن فسيفساء من الهويات توهّم أنها فاقدة للانسجام والتناغم فيما بينها مع أنها منتظمة ضمن هوية جامعة توحدها ،علما بأن الهوية باعتبارها صفات تجمع بين مكون اجتماعي وهي متعددة ومتراكبة ومتداخلة ،فالمسلمون في فرنسا الذين تجمعهم الهوية الدينية الجامعة منهم فرنسيون وأوروبيون دخلوا الإسلام طواعية وقناعة ، ومنهم وافدون على فرنسا من شتى أقطار البلاد الإسلامية عربية وإفريقية وأسيوية . فالمسلمون الوافدون من البلاد العربية على سبيل المثال لهم هويات وطنية مختلفة تجمع بين بدورها بين هويات دونها رتبة عرقية ولغوية وثقافية مختلفة ، ولهم هوية قومية لها أيضا هويات عرقية ، وهي تأتي في المرتبة الثانية بعد الهويات الوطنية ، ولكنها تلتقي عند الهوية الإسلامية الجامعة باستثناء هويات دينية أخرى في بعض بلدان الوطن العربي .
وما أوهم الرئيس الفرنسي و هو ماقد يوهم غيره أيضا بأن الهوية الإسلامية في فرنسا منقسمة على نفسها هو أنه ينظر إلى ما دون الهوية الإسلامية الجامعة من هويات أخرى منضوية تحتها لها تأثير في المكون البشري بحيث توهم بعض أحواله وتصرفاته أنه نسيج نشاز، ولنضرب أمثلة على ذلك حيث تحرص كل هوية وطنية على المحافظة على تميزها عن غيرها بحكم اختلاف الثقافات والعادات والأعراف ، ويتجلى ذلك فيما يلبس من ألبسة ، وما يؤكل وما يشرب من أطعمة وأشربة ...إلى غير ذلك مما تفرضه الهويات الوطنية أو الجغرافية من أحوال وتصرفات قد تكون أحيانا وراء نزوع الجاليات المسلمة في بلاد الغرب عموما ، وفي فرنسا خصوصا إلى التفكير في بناء مساجد خاصة بها ترتادها ،فيقع حينئذ في نفس الواهم كما هو شأن الرئيس الفرنسي وأمثاله أن الهوية الإسلامية عبارة عن هويات، والواقع أنه قد التبس عليهم أن الهويات تتراكب ولكنها تلتقي عند هوية جامعة . أليست الهوية العلمانية في الغرب جامعة لهويات وطنية وعرقية ولغوية وثقافية ؟ وهل تمايز تلك الهويات يعتبر تأزما للهوية العلمانية الجامعة على حد قول الرئيس الفرنسي في الهوية الإسلامية الجامعة ؟
وعلى غرار استئثار كل أصحاب هوية وطنية مندرجة تحت الهوية الإسلامية الجامعة بأماكن عبادة يقع اختيارهم لهويات مذهبية لا تخرج هي الأخرى عن إطارالهوية الإسلامية الجامعة ، وهو ما جعل الرئيس الفرنسي ومن ينجو نجوه في الفهم أن الهوية الإسلامية الجامعة تعاني أزمة بسبب الهويات المذهبية المتنوعة إلى سنية وشيعية ، وكل منهما متعددة الأطياف بحيث لا يفهم الرئيس الفرنسي وأمثاله كيف يكون داخل الهوية الإسلامية الجامعة اختلاف في الاحتفال على سبيل المثال بمناسبة عاشوراء لأنه لا يدرك الفرق بين الهوية الشيعية والهوية السنية، وهما معا تحت سقف الهوية الإسلامية الجامعة . ولو تأمل الرئيس الفرنسي وأمثاله مناسك الحج لتيقنوا أن الفوارق بين الهويات المذهبية تذوب لأن عبادة الحج المقتضية لميقات زمكاني معين تفرض ذوبانها، فيقف الجميع في أماكن وأزمة معلومة لأداء مناسك تلك العبادة . وليست عبادة الحج وحدها هي ما تذوب فيها الهويات المذهبية بل تذوب أيضا في عبادة الصيام المقتضية لزمن معين ، كما تذوب في عبادة صلاة الجمعة أيضا لنفس السبب .
ونظرا لعدم استحضار الرئيس الفرنسي وأمثاله لفسيفساء الهويات المنضوية تحت الهوية الإسلامية الجامعة ، فإنه ذهب بعيدا حين فكر في خلق هوية جديدة يخلط فيها بين الهوية الوطنية الفرنسية المنضوية تحت الهوية العلمانية الجامعة في بلاد الغرب وبين الهوية الإسلامية الجامعة التي أراد لها أن تكون منضوية تحت الهوية العلمانية المهيمنة ، والتي تنتقي من الهويات المذهبية المنضوية تحت الهوية الإسلامية الجامعة ما يناسبها أو ما تراه مناسبا لها يوافق قيمها ويخضع لها ، ويكون طوع تصرفها .
وخلاصة القول أن ما توهمه الرئيس الفرنسي تأزما يعيشه الإسلام إنما هو سوء فهم لطبيعة الهوية الإسلامية الجامعة التي تنصهر فيها هويات مختلفة مذهبية ووطنية وعرقية ولغوية وثقافية ... ولا يمكن الحكم على الهوية الإسلامية الجامعة من خلال التمايز بين تلك الهويات المنضوية تحتها لأن الإسلام يقر بها كما جاء ذلك في قول الله تعالى مخاطبا جميع الناس : (( يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم)) ، وهذا النص القرآني يعتبر الهويات الشعوبية والقبلية من جعل الله تعالى خالق الناس ، وأنه قد جعلها ضمن الهوية الإسلامية الجامعة، وهي هوية التكريم التي تحصل بقوى الله عز وجل . ولا يمكن بحال من الأحوال الحكم على هذه الهوية الإسلامية الجامعة كما فعل الرئيس الفرنسي وأمثاله من خلال الهويات الشعوبية والقبلية المتمايزة فيما بينها والتي تجعلها الهوية الإسلامية الجامعة في نهاية المطاف فسيفساء متناغمة .
ونأمل في الأخير أن تستفيد الهوية العلمانية في بلاد الغرب عموما وفرنسا خصوصا من الهوية الإسلامية الجامعة في قدرتها على خلق التناغم بين مختلف الهويات .
وسوم: العدد 902