حماس بين استقامة البدايات والتخبّط في النهايات
إن الإنسان المنخرط في العمل السياسي ينبغي عليه أن يبتعد كل البعد عن العاطفة في أثناء تحليله للأحداث وبناء المواقف منها، وعليه أن ينطلق من الحقائق والمسلمات، فيجب أن يكون قلبه في رأسه، حتى يُخضع عواطفه ومشاعره لسلطان العقل. أمّا إذا تجاهل العواطف بشكل كامل فهذا خطأ كبير، وخاصة حين يكون الحديث عن قضية محورية وجوهرية كالقضية الفلسطينية!!
فقضية فلسطين هي قضية الأمة الإسلامية برمتها، ويخطئ خطأً فادحًا من يختزل هذه القضية الإسلامية بحماس، أو بالفلسطينيين فقط!!!
عندما انطلقت حماس انطلاقتها الأولى لم تنطلق من فراغ وإنما انطلقت من عقيدة سليمة ومنهجية واضحة ناصعة، ومن أرضية إسلامية لا شبهة فيها ولا غبار عليها. واستطاعت قياداتها المتعاقبة أن تحافظ على ثابتها وتوازنها من خلال خطابها السياسي المتزن، والمنهجية الحكيمة التي أسهمت في حشد الشارع العربي والإسلامي لدعم جهودها المادية والمعنوية في مقاومة الاحتلال الصهيوني...
كما تجنّبت التدخل في شؤون الدول الصديقة متوخية الحذر الشديد خوف الانزلاق والانجرار في الصراعات والمنافسات الجانبية (الإقليمية أو الدولية) كي لا يتم تصنيفها لحساب أي محور أو طريق غير الطريق الشفاف الذي شقته لنفسها بدعم وزخم من الرصيد الشعبي الإسلامي والعربي والإنساني...
ولكن هذه السياسة الحكيمة بدأت تتغير بشكل ملحوظ في الآونة الأخيرة وخاصة بعد أن ترك الأستاذ خالد مشعل قيادة الحركة؛ فظهرت التناقضات الكثيرة بالمواقف والتصريحات لدى قيادات الصف الأول من حماس فكان لهذه التصريحات والمواقف أثرًا سلبيًا موجعًا لدى شرائح واسعة ومهمة من الداخل الفلسطيني المحتل ١٩٤٨، ومن أهل بلاد الشام، والرافدين، واليمن، الذين يمثلون البعد الحقيقي والعمق الاستراتيجي والقاعدة الحاضنة والطبيعية لأي عملٍ جهاديٍ جاد يخدم القضية الفلسطينية.
لقد كانت حماس رائدة في طرحها وفي ممارستها على الساحات الداخلية والعربية والإسلامية والعالمية، ولكن هذا المسار الحكيم بدأ يتبدل ويتغير في الآونة الأخيرة، ما أحدث صدمةً كبيرةً عند جمهور (حماس) ومحبيها!! فبدأت تفقد قاعدتها الشعبية في بلاد الشام، والرافدين، واليمن، والأحواز... وكذلك عند القيادات الواعية في الداخل الفلسطيني فنادوا بأعلى صوتهم مستهجنين ومستنكرين هذه الانحرافات والتصريحات والسلوكيات العلنية الغير مسؤولة والتي لم تحترم دماء الشهداء من أبناء بلاد الشام، والرافدين، واليمن، وعرب الأحواز...
وللأسف لم يتمّ تدارك هذا الأمر بل حاول العديد من العلماء والشيوخ والسياسيين ليّ النصوص وتسخيرها ووضعها في غير مكانها؛ ما أحدث ردّ فعل عكسيّ، إذ إن تبرير هذه المواقف الغير موفقة وتشبيهها برخصة المضطر الذي يُباح له أكل الميتة وشرب الخمر؛ طامّة كبرى.
والأشنع من ذلك هو المضي في تجميل هذه الأخطاء وتبريرها حتى أصبحت ديدن المادة الإعلامية المسموعة والمكتوبة والمرئية، مدعومةً بالمشاهد المؤلمة التي صاحبت التعزية بموت المجرم الجزار قاسم سليماني قاتل الأطفال الأبرياء في بلاد الشام والرافدين واليمن...
حيث أطلقت عليه الكثير من نعوت الشهادة والجهاد والأخوّة والإيمان... ما زاد في ألم الجرحى والثكالى والأيتام والمهجرين من إخوانهم وجيرانهم ممن اكتووا بنار سليماني وحكومته!!
ولم تقف تصريحات حماس على دعم المجرم سليماني وحكومته إيران بل تعدى الأمر ذلك حين قام الدكتور الزهار بتمجيد المجرم بشار الأسد ونظامه ومنظومة الممانعة كلها، خلال محاضرته المشؤومة فوق منبر جبهة العمل الإسلامي اللبنانية، واليوم يأتي رفع صورة المجرم قاسم سليماني في قلب غزّة كصدمة غير متوقعة إطلاقا.
كل هذا وغيره يدعونا للقول: إن الدبلوماسية والواقعية السياسية قد تجعلك في بعض الأحيان تتنازل عن بعض الثوابت اضطرارًا أو تقدّم مصلحة عليا على مصلحة دنيا، لكن الذي نعيبه ونستنكره أشد الاستنكار هو ذلك التمجيد والتقديس وإطلاق الألقاب الفضفاضة بل والكاذبة (الأخ، والشهيد، وشهيد القدس) على أعتى المجرمين والقتلة!!
فهذا المجرم الإيراني قاسم سليماني قتل وذبح ومثّل بجثث مئات الآلاف من الأطفال والنساء والمدنيين من إخوانكم في بلاد الشام، والرافدين، واليمن، والأحواز وشرّد من أبناء بلاد الشام، والعراق فقط ما زاد عن عشرين مليون مسلم سني، لإتمام خطّة التغيير الديمغرافي لصالح أمن الكيان الصهيوني بمباركة أمريكية وأوربية وروسية...
فما تقوم به بعض قيادات حماس من أعمال وتصريحات وسلوكيات غير مسؤولة باتت تؤثر سلبًا عليها أولًا؛ فالحركات والأحزاب وكذلك الدول تنهار عندما تخذل القيم والمبادئ التي تأسست عليها. نعم إن الدبلوماسية والواقعية السياسية قد تفيد مرحليًا ولكن فائدتها آنية وقليلة في مقابل الخسران الكبير الذي تقود إليه هذه التصريحات الغير مسؤولة، وفي مقدمتها فقدان الحاضنة الشعبية في بلاد الشام، والرافدين، واليمن، والأحواز، وفي غزة أيضًا، ولهذا ننصح العقلاء في حماس والجهاد أن يبادروا بتدارك الأمر قبل فوات الأوان!
وسوم: العدد 909