وباء في الوباء
جاء خبر موت صفوت الشريف، ضابط المخابرات المصري السابق المتهم باغتيال سعاد حسني، وسط انشغالنا بالوباء، ليطرح علينا سؤالاً كبيراً: كيف تفضّل أن تموت؟ بالوباء أم مرمياً من شرفة منزلك؟
قيل إن سعاد حسني انتحرت، لكن هناك الكثير من العناصر التي تشير إلى أن الممثلة المصرية ذهبت ضحية تلك اللعبة الجهمنية التي أتقنتها المخابرات في تعاملها مع الفنانين والأدباء والمثقفين.
وكان صفوت الشريف، الذي نجح في أن يبقى أحد اللاعبين المحترفين في عهود الاستبداد المختلفة، هو المشتبه فيه الأول في حادثة رمي سعاد حسني من شرفة منزلها في لندن.
وحكاية الثقافة العربية مع الاستبداد تستحق أن تروى، لأنها حملت المؤشرات الأولى للخراب الروحي الذي أوصل العرب إلى هذا الحضيض.
هل تفضّل أن تموت بانفجار نيترات الأمونيوم التي دمرت المدينة، أم مرمياً أمام مستشفى يرفض استقبال المرضى لأن قدرته الاستيعابية وصلت إلى حدودها القصوى؟
من المفترض أن يأخذنا زمن الوباء إلى التأمل في المصير الإنساني، وفي معنى الهشاشة، وأن يعيد ترتيب علاقاتنا بالمعاني، وأن يضعنا، مثلما وضع أسلافنا، أمام المواجهة الكبرى بين الإنسان وقدره، بين سلطة العقل والمعرفة وسلطة الطبيعة.
لكننا للأسف نعيش في بيروت، وفي بيروت لم نعد نمتلك ترف الأسئلة، فنحن نحيا وسط شعور بأننا محاطون بالخيانة.
الخيانة هي الكلمة الملائمة لوصف هذه اللحظة اللبنانية، إذ لم تكتف المافيا الحاكمة بنهبنا وإفقارنا، بل تقوم اليوم بقتلنا.
شعب كامل يقف اليوم أمام شرفة تكاد تسقط في هاوية الموت.
بيروت صارت شرفتنا المتداعية فوق وادي الجريمة، فاللبنانيات واللبنانيون يواجهون وباءين في آن معاً: وباء الاستبداد-الفساد من جهة، ووباء كورونا من جهة ثانية.
وباء في الوباء.
وباء كوفيد 19 الفاتك، ووباء المافيا القاتل، فماذا تختار، بعدما انتفت الخيارات؟
الذي يثير الغضب هو هذه اللامبالاة، وأنا لا أتكلم هنا عن استعصاء تشكيل الحكومة، «عمرها ما تتشكل» كما قال عامل «الدليفري» الذي بدا منهكاً وهو يناولني ربطة خبز وبعض الخضار.
سألته كيف الشغل، فقال نار، «مش عم نهدا، كأن الناس خائفة من المجاعة».
هل تفضل أن تموت بسبب المجاعة أم تفضل موت الوباء؟
لماذا أسأل نفسي هذه الأسئلة العبثية، هل أنا خائف أم أنني ألهو بالخوف؟
الشاعر ابن الوردي (1292- 1349) صاحب «رسالة النبا عن الوبا» وهي شهادة نادرة عن وباء الطاعون الذي ضرب بلادنا في القرن الرابع عشر. هذا الشاعر الذي مات مطعوناً في حلب، لخص في بيتين من الشعر حالنا اليوم مع طاعون الاختناق الذي يطلقون عليه اسم كوفيد 19، فقال:
رأى المعرة عيناً زانَها حَوَرٌ
لكن حاجبها بالجورِ مقرونُ
فما الذي يصنعُ الطاعونُ في بلدٍ
في كل يوم له بالظلم مطعونُ».
في مقال ناهد جعفر «التاريخ الموبوء من عمواس إلى كورونا» (مجلة الدراسات الفلسطينية، العدد 123 صيف 2020) إشارة إلى حوار بالغ الدلالة حول العلاقة بين الطاعون والظلم، عبر استحضار نص للثعالبي:
ويروي الثعالبي في كتابه «ثمار القلوب في المضاف والمنسوب» أن الخلفاء العباسيين كانوا يمنون الناس بأن الله رفع عنهم الطاعون بسبب بركة خلافتهم. يقول الثعالبي: «وقال المنصور يوماً لأبي بكر بن عياش: من بركتنا أن رُفع عنكم الطاعون! فقال ابن عياش: لم يكن الله ليجعلكم علينا أنتم والطاعون».
ماذا كان ابن عياش ليقول اليوم لو رأى اجتماع الظلم بالوباء؟
وكيف نصل إلى حكمته ونحن نشعر بأن علينا أن ننتظر رحمة القاتل أمام طوفان الوباء؟ هؤلاء السفهاء استفاقوا على اللقاح وضرورة إيجاد تشريعات لاستيراده بالأمس فقط، بينما وصل رقم الذين تلقوا لقاحاً في إسرائيل إلى مليونين.
نحن نعلم أن أكثرية زعماء المافيا وأصحاب الثروات ونجوم الفن والمجتمع تلقوا اللقاح، وبعضهم يفاخر بأنه ذهب إلى دبي وتلقّح.
هل نقول يا عيب الشوم، أم نبصق عليهم، أم ماذا؟
لماذا لم تتلقحوا في إسرائيل أيها الأبطال، فإسرائيل أقرب إلينا من إسرائيل الخليجية؟
هنا اجتمع الطاعون بالفساد، بحيث صارت حياتنا جحيماً.
وماذا بعد؟
أسأل نفسي، فيأتي الجواب عن سؤالي على شكل سؤال جديد.
وحين نطرح أسئلة لا نملك أجوبة عليها ندخل في دهاليز الصمت.
الراوي الأول في فيلم محمد بكري «جنين جنين» كان أخرس. ومع ذلك، فإن سلطات الاحتلال لم تتسامح مع الكلام الذي قاله دمار المخيم، وحكمت على الفيلم بالمنع لأنه يتهم إسرائيل بأنها قامت بجرائم حرب.
خرس الراوي في الفيلم سرعان ما يتبدد، أما خرس المواطنين العرب، في زمن اجتماع الوباءين، فلا يبدده الكلام.
نشعر ونحن نحكي بأننا لا نقول شيئاً، فما يجب أن يُقال لا يُقال كلاماً، إلا إذا اقترن الكلام بالفعل.
سلطة الوباءين تراهن على يأس الناس، واليأس أخرس وخائف ومُحبط.
أما الغضب الذي سيأتي بعد اليأس، فهو الموضوع.
في الماضي، حين كان ضابط مخابرات تافه مثل صفوت الشريف يبتز الفنانين ويقتلهم بسطوة خطاب الانقلاب، كان من الممكن لليأس أن يقود الناس إلى الاستسلام.
أما اليوم فإن الاستبداد فقد لغته التي تفوح منها رائحة العفونة.
لن نسمح لصفوات الشريف اللبنانيين أن يرموا لبنان من الشرفة.
يكفي.
وليذهبوا «كلن يعني كلن» إلى الجحيم.
وسوم: العدد 912