حلُ الدولتين وصفقة القرن وجهان لعملةٍ واحدةٍ
استبشر بعض الفلسطينيين بفوز الديمقراطيين في الانتخابات الأمريكية، وتولي جوزيف بايدن رئاسة الولايات المتحدة الأمريكية، الذي ينادي وحزبه الديمقراطي بحل الدولتين، فلسطينية وإسرائيلية، لتبقى إسرائيل دولة يهودية ديمقراطية، إلى جانب كيانٍ فلسطيني يتفق عليه، ويرفض مصادرة الأراضي والتمدد الاستيطاني في الضفة الغربية، ويؤيد العودة إلى السياسات الكلاسيكية الأمريكية القديمة، السطحية الشكلية التي تتعامل مع القشور وتبتعد عن قلب الأزمة ولب المشكلة، ويريد استئناف علاقاته مع الجانب الفلسطيني وتحسين تعامله معهم، كأن يعيد فتح مكتب منظمة التحرير الفلسطينية في واشنطن، ورفع الحظر عن مساهمة بلاده في ميزانية الأونروا، وإعادة الدعم إلى مؤسسات السلطة الفلسطينية الأمنية والاجتماعية والصحية والإعلامية وغيرها.
شكل هذا الطرح القديم الجديد برنامج ورؤية الحزب الديمقراطي الأمريكي، الذي اعتادت عليه الإدارات الديمقراطية الأمريكية السابقة كلها، منذ كارتر وكلينتون وأوباما، وصولاً إلى بايدن أخيراً، وهو برنامجٌ يبدو عليه الوسطية والاعتدال، ويبتعد عن جنوح الانحياز وتطرف الولاء للكيان الصهيوني، ويظهر للعامة ناعماً رقيقاً لطيفاً، خالياً من التطرف والغلو، ويحرص على أن يبدو وسطياً وراعياً وسيطاً للمفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية، بحياديةٍ ونزاهةٍ، ولكنه في حقيقته غير ذلك تماماً، فالديمقراطيون أكثر ولاءً للكيان الصهيوني، وأكثر حرصاً على رعاية مشروعهم وحماية كيانهم، لكنهم يفضلون القفازات الناعمة والتعامل المخملي الرقيق مع أعداء الكيان، أكثر من الأساليب الخشنة والمروعة، والتهديدات القاسية والموجعة.
أما الجمهوريون الذين يعرفون بخشونتهم ورعونتهم، وقوميتهم وانجيليتهم، وأنهم رسل الرب ومبعوثو السماء، ينفذون وعد الإله ويطيعون أمره، ويعتقدون أنهم واليهود شركاء، يتبعون الكنيسة الإنجيلية واليهودية ذاتها، ويقرأون العهد نفسه القديم والجديد، ويؤمنون أن نصرة إسرائيل أمرٌ رباني وواجبٌ ديني، يجب القيام به إنفاذاً للتعاليم والتزاماً بالتوصيات، ولهذا فإنهم لا يهتمون لنظرة الآخرين لهم، ورد فعل أعدائهم عليهم، فما يهمهم هو أمرهم وعلو شأنهم فقط، سواء رضي العرب أو سخط المسلمون، فهذا أمرٌ لا يعنيهم كثيراً، ولا يشغلون به أنفسهم، وعلى الجميع إدراك ذلك وفهمه والعمل بمقتضاه، وإلا نزل عليهم السخط وحل بهم الهلاك.
الديمقراطيون يريدون إسرائيل دولةً قويةً متفوقة، يهوديةً نقيةً ديمقراطية، قادرة على العيش بأمانٍ وسلامٍ في دول المنطقة وشعوبها، وهم يتبنون الرؤيا الإسرائيلية للحل كما يأمل الإسرائيليون ويتمنون، ويحملون برنامجهم الاستراتيجي ويدافعون عنه، ولا يختلفون أبداً عن الجمهوريين في ولائهم وصدقهم، وحرصهم ورعايتهم، بل إنهم قد يتفوقون عليهم، ويقدمون لهم ما عجز الجمهوريون عن تقديمه، فها هم يدرجون كيانهم ضمن قيادة أساطيلهم الخارجية في منطقة الشرق الأوسط، ويعلن وزير دفاعهم الجديد أن أمن إسرائيل مسألة أمريكية بامتيازٍ، وتدخل في صُلب الأمن القومي الأمريكي.
لا يختلف الديمقراطيون عن الجمهوريين الذين يبالغون في التعبير عن مواقفهم بجلاءٍ ووضوحٍ، وبخشونةٍ وقسوةٍ، وقد طرح آخرهم دونالد ترامب صفقة القرن وأملاها على الدول العربية، وأراد أن يستخدم حكوماتها في فرض رؤياه على الشعب الفلسطيني، وإكراهه على القبول بها وعدم الاعتراض عليها، وقد ظن أن الدول العربية تستطيع أن ترغم الفلسطينيين على القبول بالصفقة والتماهي معها، بينما يرى الديمقراطيون أنه يمكن الوصول إلى ذات الأهداف التي أعلن الجمهوريون، وفرض حل الدولتين بما يرضي الإسرائيليين، ولكن بواسطة طرفٍ فلسطيني يقبل العودة إلى طاولة المفاوضات، ويوافق على إعادة النظر في شروط وقواعد الحل النهائي للقضية الفلسطينية.
لا فرق أبداً بين حل الدولتين من وجهة النظر الديمقراطيين الأمريكيين، وبين صفقة القرن التي دعا إليها الجمهوريون، فكلاهما يؤدي إلى كيانٍ فلسطينيٍ مسخٍ منزوع السيادة، ممزق الأشلاء مرقطٌ، لا رابط بين أطرافه ولا تواصل، يقوم على إدارة السكان وتقديم الخدمات لهم، بينما يتعذر عليه ممارسة السيادة والتحكم في الأرض والحدود والبحر والفضاء، الذي يجب أن يبقى تحت السيادة الإسرائيلية الكاملة، لكن الفرق بين المشروعين فقط هو في المدخل والأداة.
فالجمهوريون يرونه عبر البوابة العربية الخشنة، القادرة على ممارسة القوة والسلطة والنفوذ على الفلسطينيين، وإكراههم على تنفيذ الصفقة، بينما يراها الديمقراطيون في طرفٍ فلسطيني منتخبٍ، يؤمن بالمفاوضات ويقبل بشروطها، ويبدي مرونةً في الحوارات واستعداداً للتنازل للوصول إلى حلٍ نهائي، هو في أصله وجوهره، وشكله وحقيقته، حلٌ إسرائيلي بامتيازٍ، يتفق مع صفقة القرن ويتماهى معها، وهو الذي يتطلع إليه الإسرائيليون وله يعملون، لكنهم يريدونه إما بموافقة عربية أو بشرعية فلسطينية، الأمر الذي يعني بدقة أن حل الدولتين الديمقراطي، هو نفسه صفقة القرن الجمهورية، وإن بدت مفرداتهما مختلفة وأدواتهما متباينة، لكن حقيقتهما واحدة وجوهرهما مشترك.
ويلٌ لمن صدق الكاذبين، وآمن بمظهر المخادعين، وركن إلى الخبثاء الظالمين، وحسرةً على الجهلة عديمي التجربة وناقصي الخبرة، السفهاء السذج، الذين يجربون المجرب ويصدقون المخرب، ويعتقدون أن الغرب قد يصدقنا، وأن أمريكا قد تكون معنا، وقد تحب الخير لنا، ونسوا أنهم لا يرضون عنا حتى نتبع ملتهم، ونؤمن بروايتهم، ونصدق حكايتهم، ونعترف بكيانهم، ونقبل بمشروعهم، وننسى أحلامنا ونكفر بأهدافنا، ونتنكر لماضينا ونلعن أسلافنا، ورغم ذلك فإنهم عنا لن يرضوا، وبنا لن يقبلوا، ولنا لن يطمئنوا، اللهم إلا إذا كنا تحت التراب أمواتاً، أو خارج أوطاننا سكاناً.
وسوم: العدد 914