عروبة السودان بين جحود الخارج وصراعات الداخل
هجرة العرب في واقع الأمر إلى السودان منذ قرون سحيقة وآماد طوال، ليس شيئاً نفترضه نحن أو نستنبطه استنباطا، بل هي حقائق لن تكلفنا جهداً في إبانتها وتوضيحها، فهناك من يجهل هذه الحقائق أو يتجاهلها، ويتخذ تجاهله هذا مذهباً يصرف نفسه في الهيام به والتعلق بأهدابه، ثم يذيعه في الناس بعد حين في غير تحرج ولا حساب، فقد “شككت بعض هذه الأقلام في عروبة القبائل التي تدّعي هذا الشرف الباذخ، وجادلت في ذلك جدال من أعطى أزمة النفوس، وأعنّة الأهواء، وسعت بكل ما أوتيت من حجج وبراهين أن تطمس حقائق لا يُقدم على دحضها إلا من أوتي فكر فقير مدقع، أو جموح في الخيال
والذي اتضح لي جلياً أن أصحاب هذه الأقلام يعتقدون بأن لهم القدرة على رفع أقوامِ وخفض آخرين، وتصوروا أن باطلهم أشرف من الحق، وأن خطأهم أفضل من الصواب -كما قال المرحوم الزيات في رسالته-، وقد أطنبوا في تحقير هذه القبائل الممتدة على مدار خارطة السودان والزراية عليها، بل تناولوا رموزها بالتهكم والازدراء، رغم درايتهم بأن هذه الرموز كانت مصابيح الدجى، وأعلام الهدى، وفرسان الطراد، وحتوف الأقران، وأبناء الطعان، وأنهم مفخرة للسودان والسودانيين قاطبة”.
دعونا أيها السادة في مقدمة هذا البحث نعرف كيف دخلت منظومة الدين الخاتم إلى أرض النيلين من غير خيل ولا ركاب، ونرد التاريخ على أعقابه ليصب في منبعه، ونتتبع مجيء العرب إلى السودان ودخول قاطنيه في الإسلام زرافات ووحدانا، يخبرنا العالم الثبت، والمؤرخ السوداني الذي ارتسم تاريخ أرض النيلين على لوحة قلبه، وانتقش في صفحة ذهنه البروفسير يوسف فضل عن الهجرات العربية إلى أرض السودان بأن العرب المسلمون بدأوا ينسابون منذ العقد الثالث من الهجرة النبوية الشريفة” من مصر وعبر البحر الأحمر إلى نفس المنطقة ، وفي بطء استمر بضعة قرون أدت تلك الهجرة إلى خلق درجة كبيرة من التجانس الثقافي الاجتماعي والوجداني حتى صارت تلك البلاد جزءاً من العالم العربي الإسلامي يتحدث جل أبنائها العربية ويدينون بالإسلام.
وكانت بلاد النوبة والبجة قد تأثرت ببعض الهجرات العربية الوافدة من جزيرة العرب قبل ظهور الإسلام، إلا أن أثر تلك الهجرات كان ضئيلاً إذ لم تترك بصمات واضحة على التكوين البشري لسكان تلك الديار، وازدادت تلك الهجرة أهمية بظهور الإسلام الذي أعطاها التوجه الديني والدعم السياسي، وقد أخذت تلك الهجرات صوراً متعددة بعضها بقصد التجارة أو التعدين أو طلباً للمرعى أو هروباً من ضغوطات الحكومات القائمة على أمر مصر”.[1]
وفي بدء الأمر وقف المسلمون على أبواب النوبة والبجة، ثم اشتبكوا بهم ليضعوا حداً لهجماتهم المتكررة على ديار المسلمين في مصر، وسارت الجيوش العربية حتى بلغت دنقلا، ولكنها قوبلت بمقاومة شديدة من النوبيين وكان نتيجة ذلك الغزو(651-652م) أن دوخ المسلمون مملكة النوبة المسيحية ولكن دون أن يقضوا على سلطانها قضاءاً تاماً، وعقد عبدالله بن سعد بن ابي السرح مع ملكهم معاهدة نظمت العلائق بين العرب والنوبة في شئون السلم والتجارة، وظلت هذه المعاهدة التي عُرِفت بعد النوبة أو معاهدة البقط تمثل الركن الأساسي في العلاقات بين المسلمين والنوبيين لفترة تقارب الستة قرون.
وفي فترة سريانها تسربت المؤثرات الإسلامية وتدفق التجار العرب في هدوء أدى في نهاية الأمر إلى تغيير مسار بلاد النوبة السياسي والاجتماعي والديني، وتمكن المسلمون أيضاً من عقد سلسلة من المعاهدات المماثلة لعهد النوبة مع البجة مكنتهم من التوغل في ديارهم واستغلال مناجم الذهب والزمرد في الصحراء الشرقية، في حمى هذه الاتفاقيات، ونتيجة لقرار المعتصم بحرمان المقاتلين العرب من العطاء وأبعادهم عن الجيش تدفق العرب في أعداد كبيرة بلغت الذروة في العهد المملوكي، وانفتح المهاجرون على المجموعات الوطنية معايشة واختلاطاً واستغلوا نظام الوراثة عن طريق الأم الذي كان متفشياً في السودان فبسطوا نفوذهم تدريجياً على أجزاء كبيرة من البلاد”.[2]
انتشار العرب في أنحاء السودان
ومهما يكن من شيء فقد استيقن العرب أن التوغل في هذه البلاد قد أمسى متاحاً لهم، وأن لهم عضداً يسندهم، فتتابعت قوافلهم في مضاء وعجل، وينبغي أن نتصور حال هذا العربي الذي انتقل لتوه إلى ديار لا تضطرك أن تفكر فيها تفكيرا طويلاً متصلاً لأن الحياة فيها وداعة مستقرة، وليست على شاكلة تلك التي انتقل منها، فحياته الماضية كانت حافلة بالأحداث لا تمر عليه لحظة من اللحظات، أو ساعة من الساعات، إلا لقيه فيها حدث قد يرضيه أو يسخطه، وقد يدفعه إلى الذعر أحيانا.
أما هنا فلا يتأثر بالفكر إلا بمقدار، ولا يأبه للأحداث إلا من حيث أنها قد انصبت عليه، أو تجهمت له، عاش العربي في جنوب الوادي ولم تمتد إليه يد ضائم، بل وجدناه نتيجة لنظام الوراثة عن طريق الأم قد حاز على مقاليد السلطة، وكذلك عن طريق الالتحام قد نشر تدريجياً إسلامه وثقافته العربية، وأضحى مؤثراً في محيطه والبرهان على هذا الزعم” تمثل الوطنيون اللغة العربية والأنساب العربية تمثلاً تاماً، ولكن المدهش أن البجة والنوبة رغم أنهم أولّ من اتصل بالإسلام العربي حافظوا على لغاتهم المحلية، وعلى اثر ذلك شهد الجزء الشمالي من السودان الشرقي اختلاطاً بين العرب والنوبة والبجة من جهة وبين الإسلام والمسيحية والوثنية من جهة أخرى، وكيفما كان الأمر فإن اكتمال انتشار الثقافة الإسلامية وغلبتها كان من مجهود الفقهاء ورجال الطرق الصوفية، في كنف ملوك العبدلاب والفونج والفور، إلى حد ما”.[3]
هذه الحقائق نسوقها لكل من أنكر أو ارتاب في عروبة السودان، داخل السودان وخارجه، فهذه القرون المندثرة من وجود العرب في السودان تنسخ هذه الافتراءات التي لا تمت للحقيقة بصلة، كما تنسخ الشمس الضاحية سوابغ الظلال، إذن ففيم الخلاف، وعلاما الجدل؟ في عروبة السودان الذي لم يجد مداً هادرًا لحيويته، ولا سنداً صلداً لقوته، ولا أساساً متيناً لثقافته، إلا في دينه الذي اعتنقه السواد الأعظم من السود، ولغته التي يتخاطب بها عموم الجهلة و المستنيرين في البيادر والنجوع، فمن يصر عليه غيه، ويمعن في تيهه، فعليه أن يلقي نظرة عجلى في تلك الخلائق المبثوثة في القرى والمدن والأسواق، ويطالع تلك الوجوه التي تكسوها الطيبة على تنوعها واختلافها سوف تخبره على خطأ تصوره، وزيف اعتقاده، وحتى لا أطيل إظهار التفجع على مثل هذا الافتئات الذي درجنا عليه فنحن أمة لا تلتفت إلا لما يشاع عنها من بعد، وتغفل عن البلاء الذي لا يختلف باختلاف الظروف، فصراع الهوية المترتب على دخول العرب إلى السودان يسير على منهاج واحد منذ قرن ونيف ولن ينتهي إلا إذا خاطب الكل بعضهم البعض بأسلوب منزه عن الاستعلاء.
لقد توالت هجرات القبائل العربية المسلمة إلى السودان على مر القرون التالية، وعبر العهود الإسلامية المختلفة لتستقر القبائل الوافدة على ضفاف النيل، ثم اضطرهم ضيق الأرض إلى التوغل جنوباً في محاذاة النيل ثم انتشروا شرقاً إلى أن التحموا بقبائل البُجا، ثم اتجهوا إلى أواسط السودان وهناك وجدوا أرضاً واسعةً قليلة السكان أجواؤها و تضاريسها شبيهة بأحوال الجزيرة العربية وبها من أسباب العيش ما يجعلها خير مستقر لهم، وتواصلت الهجرات العربية متوغلةً في السودان جنوباً وغرباً إلى أن صدتهم طبيعة الأرض والمناخ الاستوائي وكثافة السكان من القبائل النيلية من أن يصلوا إلى عمق القارة (في جنوب السودان) أو إلى خط الاستواء فاتجه بعضهم غرباً إلى شمال دارفور وإلى تشاد.
هجرات شمال إفريقيا
وهكذا تشكلت المنطقة العربية في السودان كما نعرفها اليوم وقامت لهم فيها ممالك وإمارات ودويلات كانت في البداية مستقلةً، بعضها عن بعض، وقد أدّى توطّنُ العرب في السودان ومخالطُتهم للسكان الأصليين إلى انتشار الإسلام وغلبة اللسان العربي في شمال السودان ووسطه، على أن بعض اللهجات السودانية القديمة لم تندثر إلى اليوم لا سيّما في المناطق الأقل اختلاطاً بالعناصر العربية، وفي الحقيقة استمرت الهجرات العربية الكبيرة تصل إلى السودان حتى القرن الثامن عشر، مثل قبائل الرشايدة والزبيدية الذين حلّوا في شرق السودان، على أنه كانت تصل إلى السودان عن طريق حدوده الغربية جماعاتٌ أخرى من بلاد المغرب ومن بلاد شنقيط في تطوافهم لأجل الدعوة أو في طريقهم إلى الحج، كثيرون من هؤلاء استقروا بالسودان وكونوا أسراً وجاليات ظلت معروفة إلى حين أن انصهرت وأصبحت بعضاً من النسيج العربي في السودان.
كذلك جاءت إلى السودان وفادة كبيرة من دول غرب إفريقيا لا سيما من قبائل الهوسا المسلمة من شمال نيجيريا حلّوا في بِقاع متفرقِة من السودان”.[4] ويرى العلّامة بروفيسور عبدالله الطيب أن بلاد السودان” أكرمت الصحابة وأجارتهم فذكروا لها ذلك، وآثر أنهم نهوا المسلمين الأولين أن يقع منهم اعتداء على هذه الجهات، وذلك أعان على نشر الإسلام في بلاد السودان كما لم ينتشر في أي بلاد أخرى، لأن المسلمين لم يوجفوا على بلاد السودان بخيل ولا ركاب، وإنما تغلغل الإسلام فيها من طريق الكلمة المباركة والدعوة الحسنة، وبالرغم مما أضافه الفقهاء أنه يكره السفر إلى بلاد الكفر وإلى بلاد السودان، على الرغم من ذلك انتشر الإسلام في بلاد السودان، ويرى العلّامة الراحل عبدالله الطيب أن دخول الإسلام في بلادنا أدخل معه علوم الإسلام، والمذهب الذي غلب في بلدنا مذهب أهل المدينة، المذهب المالكي، والقراءة التي غلبت على بلدنا رواية الدوري عن أبو عمرو إلا في الناحية الشمالية من السودان انتشرت قراءة ورش فيما عدا جزيرة لبب -مسقط رأس الإمام المهدي- فإنه كان يقرأ فيها بأبو عمرو”.[5]
اتصال السودان باللغة العربية
دخلت اللغة العربية إلى السودان في يسر ورفق ولين عن طريق الهجرات العربية قبل أن تبزغ شمس الإسلام، وانتشارها في تلك الفترة لم يكن ينتهي بنا إلى حكم أو يبني قاعدة، وبعد أن عرفت سلطنة سنار المسلمة نفسها، وتبينت قصدها، وأحّست بفداحة حملها، غدت هذه اللغة السامية محل عناية واهتمام، ولكنها لم تمسى أداة تعبر عما يحسه السود ويجدوه إلاّ قبل عدة عقود، فالسودان كانت تتسيده على مدار التاريخ لهجات كثيره لا حصر لها، بعضها اندثر وما تبقى منها كان في طريقه إلى الاندثار لولا أخطاء حكومة الإنقاذ التي أججت في النفوس أوار القبلية، وأذكّت من حمم الهيجاء، ولعل الشيء الذي أكاد أجزم به أن السودانيين الذين يتحدثون هذه اللهجات، ويتعصبون لها، قبل أن تفرض حكومة الاستقلال المجيدة اللغة العربية على الجميع، قد اختلفوا إلى خلاوي شيوخ المتصوفة زمناً قصيراً أو طويلا، وأنهم قد استفادوا من هؤلاء الشيوخ، وكل هؤلاء قد اجتهد في أن يرفع وصمة الجهل ما استطاع عن خاصته وأقربائه حتى يلموا بتلاوة القرآن وفهمه.
إذن “السودان قد عرف اللغة العربية منذ زمن قديم عن طريق هجرات عربية سابقة لدخول الإسلام إليه، فقد جاء خبر ذلك في عددٍ من المصادر الموثوق بها رغم أن كتابات المحدثين عن تاريخ السودان غالباً ما تتجاوز الحديث عن البدايات الأولى لاستعراب السودان، وقد لخص الإداري المؤرخ “ماك مايلك” في الجزء الأول من كتابه الشهير “تاريخ العرب في السودان” مجمل ما انتهت إليه الدراسات في هذا الشأن بالعبارة التالية – والترجمة بتصرف من عندي: لقد أصبح من الحقائق التي لا خلاف عليها أن استيطان العرب المسلمين في السودان أدَّى إلى تغيير عميق في الأصول العرقية لسكانه الأصليين، بيد أن هذه الحقيقة الأولى لا يجب أن تحجب الحقيقة الثانية التي تتساوى معها في الأهمية وهي أن القبائل العربية كانت منذ زمن بعيد قبل ظهور الإسلام تعبر (من جهة الشرق)، إلى السودان ثم إلى مصر.
فالسفر على شواطئ البحر الأحمر الشرقية والغربية كان في الماضي أمراً ميسوراً بل إن التجار العرب وصلوا في ذلك الزمان الباكر إلى نهر النيل من جهة الشرق، وكانت المنطقة إلى جنوب مصر تعد منطقة اختلاط بين العرب والسكان الأصليين، حيث استق كثير من العرب العابرين عن طريق أريتيريا والبحر الأحمر في السودان لكونه الأقرب إلى طبيعة بلادهم.
ولعل انهيار سد مأرب في الزمان الماضي كان بمثابة الانفجار الكبير الذي فرق القبائل اليمنية أيدي سبأ وبعد بين أسفارهم في أيما اتجاه، فمنهم من عبر إلى السودان عن طريق الحبشة، ومنهم من واصل سيره إلى الغرب في أقصى الشمال الإفريقي، كما فعل إفريقس بن ابرهة ذي المنار وهو الذي غزا السودان من جهة الحبشة وواصل سيره إلى بلاد المغرب ابتنى فيها مدينة إفريقس التي نسب إليها اسم القارة”.[6]
لقد توافدت قافلة العرب إلى السودان غير ظلعاء ولا وانية، وأضحت تتقارب وتتضام وتصاهر وتنصهر مع قبائل السودان المتعددة، يدفعها إلى ذلك شعورها وإدراكها بأهمية هذا التمازج وما يترتب عليه، وسارت وراء حدسها بخطى الواثق المطمئن حتى دان لها الأمر، وصارت لها الغلبة، وخضعت لها الرقاب، حتى صار هاجس كل قبيلة أن تجمعها آصرة رحم، أو نسب شابك، أو واشجة عرق بقبيلة من هذه القبائل التي طرأت قريباً على بلادهم، واستمر هذا التهافت حتى بعد استقلال البلاد من قبضة الأجنبي، فهناك الكثير من القبائل التي تدعي أن لها شرفاً صاعداً، ومجداً باذخاً، ومكانة بعيدة المرتقى، رغم يقينهم في قرارة نفسهم أنهم ليسوا عربا خلصاً.
سيطرة اللغة العربية على الألسنة والأذهان
ويقيني أن الشماليين ما هم إلاّ “شعب هجين تغلب عليه الثقافة العربية، وقد وعى سودانيو الشمال هذه الحقيقة منذ أمد، فهم يعتزون بأنهم عرب وأفارقة دون قلق أو تناقض، بل أن سواد بشرتهم، وهم أكثر العرب أفرقة يجعلهم أقرب إلى التكوين الثقافي والنفسي لإخوانهم في الجنوب، وظهرت هذه الحقيقة جلية واضحة عندما خرجت أجيال من السودانيين تطلب العلم في أوربا وأمريكا وسائر البلاد العربية، وقد ذهلوا لشدة الشبه بينهم بين الأمريكيين السود ومواطني جزر الهند الغربية وكثير من الأفارقة، ولاحظوا في نفس الوقت ما يفصلهم عن بعض العرب شكلاً ومخبراً(أو شخصية)، هذه بعض المؤثرات النفسية التي جعلت بعض من يبالغون في صراحة عروبتهم يراجعون مواقفهم”.[7] وهذا الرأي رغم وجاهته فانه لا ينطبق على كل الشماليين، فوهم النقاء العرقي يدلس لبعض المتباهين بأحسابهم الرأي، ويموه لهم الباطل، وهناك شواهد صادقة على هذا الزعم.
وجود العنصر العربي في السودان وهيمنته على مفاصل الدولة، واستحواذه على المناصب السيادية والدستورية، وسيادة اللغة العربية وسيطرتها على الألسنة والأذهان، خلق حالة من الغبن والامتعاض لدى بقية القبائل التي يذخر بها السودان المتعدد مما حدا بها أن تشعر بأن قبائل الوسط والشمال العربي لا تحفل لهم برأي، أو ترجع إليهم بخبر، ونجم عن هذا الشعور صدعاً بين القبائل، وأفئدة اجتاحتها الغوائل، فأين هو الإنصاف الذي يكشف الضر؟ والمساواة التي ترضي الحر؟
والغريب أن كل الحكومات المتعاقبة تدرك سر النهوض، وتعرف حقيقة الإصلاح، ولكنها لم تحرك ساكناً لتلافي الأمر قبل أن يستفحل ربما كان من الأجدى بعد هذه الإضاءة أن نتحدث عن الأسباب التي جعلت اللغات الأخرى التي يعج بها السودان ضئيلة فاترة، إن السمة الطاغية للغات السائدة في السودان هو التغير في الانتقال التدريجي للغات المحلية التي تتجاوز المائة لغة التي تقهقرت وتراجعت أمام طوفان اللغة العربية، فإن” السعي التاريخي للسلطات السياسية المتعاقبة في السودان منذ الاستقلال، إلى اتخاذ سياسة لغوية بتنمية لغة مشتركة( اللغة العربية) إنما ينطلق من اعتقاد ضمني بأهمية اللغة المشتركة في خلق وحدة وطنية وبلورة قيم اجتماعية وسلوك نمطي.
ولكن الطبيعة الجدلية للظاهرة اللغوية في مجتمع متعدد اللغات كالسودان تنطوي انطواءً عضوياً على عوامل معرقلة تشكل كوابح عصية في مسار هذا التوجه، إذ تتعرض مثل هذه السياسة اللغوية القاصدة إلى الوحدة لمعارضة شرائح ذات مواقع استراتيجية في المجموعات العرقية، وتتأتى هذه المعارضة انطلاقاً من إحساس هذه الشرائح بأن لغاتها المحلية قد همشت، وأن قدرتها على الإبداع الأدبي والثقافي، وأن إمكاناتها على الحراك الاجتماعي قد كبلت وأن هويتها الجماعية قد صودرت، وعندئذ تشتد حدة الصراع البين-جماعي الدائر أصلاً لعوامل قد لا تكون ذات صلة باللغة ابتداءً، فيبدأ هذا الصراع يأخذ أبعادا عاطفية تسعر اللغة أوارها”.[8]
ويذهب الدكتور عشاري أحمد محمود في مقاله “جدلية الوحدة والتشتت في قضايا اللغة والوحدة الوطنية في السودان” أن من أهم الأسباب التي زادت من رقعة اللغة العربية وانحسار اللغات المحلية في السودان هي” الظواهر المتمثلة في نشأة المدن والهجرات من الريف وزعزعة المزارعين، والتزاوج بين المجموعات العرقية-اللغوية، والتعليم باللغة العربية وتعقيد شبكات التواصل المباشر أو عبر وسائل الاتصال الجماهير الكبرى، كذلك تأسست أعراف وتقاليد وتوقعات حيال اللغة العربية واللغات المحلية ارتبطت بالقيم الشرائية المتمايزة لكل من هذه اللغات وبالوعي الشعبي حول مستقبل كل منها، ونحن إذا نركز على جذور سريان العربية، والعوامل الاجتماعية المصاحبة، والقيم الشرائية المتمايزة للغات في السوق اللساني، فذلك لكي نبين منعة الأسس المادية والقيمية التي يرتكز عليها سريان اللغة العربية والتي تنطوي في ذاتها، على عوامل خلخلة وتقويض دعائم اللغات المحلية في المجتمع”.[9]
خاتمة المقال وأهم النتائج التي حفل بها:
الباحث يريد أن يأخذ الناس برأيه على ما فيه من عوج وأمت، ولهم أن يقوموه أو يضيفوا إليه إذا لاح شيء طارئ، أو برهان جديد، فبعض الناس يجد لذة نفسه ومتاعها في إنكار عروبة السودان، ويتمنى أن يعجب الناس بما ذهب إليه، ويسيغوه ويعجبوا به، لسبب يسير جدا وهو أن غالبية قاطني تلك الرقعة قد اكتسبت ألوانهم اللون الكالح، ولم تجتهد هذه الطائفة ما استطاعت في تحصيل الصواب، وخاضت فيما انتحله الناس ولم يحسنوا رعايته، أو الحرص عليه، وليس في هذا الزعم شيئا مألوفا قد نقبله أو نرفضه، ولكنه قد يدفعنا أن نستنطق القياس المنطقي عند الاستدلال، وندعي أن اللون الأبيض الناصع البياض الذي نجده في كثير من أقطار الشام وشمال أفريقيا أيضا لا يمت للعروبة بصلة أو يصل إليها بسبب.
عروبة السودان ليست محض افتراء يجب تأولها والتأمل فيها، بل هي حقيقة راسخة مثل انتمائه الإفريقي الذي لا نحتاج أن نتكلفه أو نسعى لإثباته بالعقل والبصيرة، فهو ثابت باليقين المطلق، والأدلة الساطعة. عروبة السودان على كثرة أدلتها، وتنوع براهينها، ما زال جحدها يتكرر في كل يوم دون انقطاع، ويتحدث عنها الناس ويطيلوا الحديث، كأنها خطوب يريدون منها أن يمتحنوا صبر السوداني وجلده، السوداني الذي تمضي أعوامه متصلة في حياة ناضبة تشبه بعضها بعضاً، لم يترك بعد هذه الآثام رغم ما تفرضه عليه من قيود وعنت، فالقبلية لم تخفف من قيودها وأغلالها على نفسه، ورغم أنه يعلم أنها خيل تجري به إلى باطل، وجلبة تودي به إلى ضلال، إلا أنه ما زال يجهل كيف يعفر وجهها، وينتهي بركابها إلى الإعياء. لقد أفسدت القبلية عقولاً كانت قمينة بأن تصلح، وعوّجت أحزاباً كانت جديرة أن تستقيم، وأفسدت طبائع كانت خليقة أن تهتدي إلى أسرار المنثور والمنظوم التي ذمت العصبية وغالت في قدحها.
ما زال السودان الذي تراقبه دول العدى مراقبة متصلة دقيقة يستقبل الوفود التي تترى إليه دون كلل أو انقطاع، ووفود أخرى تتأهب للقائه بعد أن هشت له ومالت إليه، بعد أن بهرهم منه خير جم، وفضل كثير، ورغم ما أصاب السودان من النكبات على كثرتها إلا أنها لم توقف من هدير هذه الهجرات أو تسنى من عزيمتها، وقد أضحى ملتقى التجار من أنحاء البلاد العربية والإسلامية، وقبلة لكل مذعور وفار، يطمئن فيه إلى الأيام، وتسكن فيه عبراته المسفوحة، وتهدأ جفونه المقروحة، وتنقطع الأسباب بينه وبين الشجى والآلام.
وسوم: العدد 917