القدس والمزايدات المسيئة
تابعت باهتمام عبر وسائل الإعلام ردود الفعل حول قرار تأجيل الإنتخابات التّشريعيّة الفلسطينيّة بسبب رفض الاحتلال اجراءها في القدس عاصمة دولة فلسطين العتيدة. ومن تابع هذه الرّدود مثلي وهم كثيرون سيجد أنّ هناك من يؤيّدون تأجيلها في سرّهم لأنّهم يدركون أنّ الإنتخابات دون القدس يعني تنازلا رسميّا عن القدس يتماشى وصفقة "قرن" ترامب التي أملاها عليه نتنياهو وماتت في مهدها، لأكثر من سبب وفي مقدّمتها الإجماع الفلسطينيّ على رفضها، ويمثّل هذا الجانب بشكل خاصّ حركة حماس، التي من غير المعقول أن توافق على انتخابات دون مشاركة القدس، ولو كانت في قمّة السّلطة لكانت هي من أعلنت تأجيلها، لكنّها رفضت التأجيل علانية من باب المناكفات السّياسيّة.
وهناك من رفضوا تأجيل الإنتخابات لجهلهم بخصوصيّة القدس وما يجري فيها، فأخذوا يطرحون اقتراحات يستحيل تطبيقها على أرض الواقع مثل وضع صناديق الإقتراع في بعض المساجد والكنائس والقنصليّات، ووجدوها فرصتهم السّانحة في المزايدات؛ ليكسبوا ثقة وأصوات العامّة من النّاخبين! فليت رموز جهل واقع القدس من هؤلاء يستطيعون الوصول إلى القدس؛ ليصلّوا في مسجدها الأقصى وكنيسة القيامة. وليتهم يطرحون أسماء القنصليّات التي يتحدّثون عن امكانيّة وضع صناديق الاقتراع فيها، فهل يقصدون القنصليّة الأمريكيّة أم الفرنسيّة أم البريطانيّة أم...إلخ؟ وهل يدركون موقف حكومات هذه القنصليّات من القدس؟ وهل يدركون ماذا تعني ميوعة موقف دول الاتّحاد الأوروبّيّ من القدس والذي لا يختلف في جوهره عن الموقف الأمريكيّ؟
وهناك من رفضوا تأجيل الإنتخابات؛ ممّن شكّلوا قوائم لخوض الإنتخابات لتنفيذ أجندات خارجيّة، وقبضوا ملايين الدّولارات لتنفيذ "المشروع الإسرائيلي- الأمريكيّ – العربيّ المتصهين"بالتّنازل عن القدس وحقّ الشّعب الفلسطينيّ في تقرير مصيره وإقامة دولته المستقلّة بعاصمتها القدس الشّريف، بعد كنس الاحتلال ومخلّفاته كافّة.
وهؤلاء يدركون تماما أنّ التّنازل عن حقّ الإنتخاب في القدس ولو بشكل رمزيّ يعني التّساوق مع المشروع الصّهيونيّ الذي يرفض إقامة الدّولة الفلسطينيّة، وأقصى ما يمكن أن يتنازل عنه للفلسطينيّين هو إدارة مدنيّة على السّكّان وليس على الأرض. وكما قال نتنياهو في كتابه الصّادر عام 1992 بالإنجليزيّة وترجم إلى العربيّة تحت عنوان "مكان تحت الشّمس"واستشهد فيه بمقولة جابوتنسكي" لا يضير الدّيموقراطيّات وجود أقلّيّات قوميّة فيها"! وليت أمثال هؤلاء يطرحون فكرهم السّياسيّ بصدق أمام الشّعب؛ ليدركوا مدى عزلتهم هم ومن يقف خلفهم من مموّلين تخلّوا عن انتمائهم القوميّ والدّينيّ والإنسانيّ.
ومن الأمور التي لم تعد غريبة هي المزايدات التي تسبح في بحور الأحلام الورديّة من خلال أغلبيّة القوائم السّتّة والثّلاثين التي ترشّحت، والتي يزيد عدد أعضائها على عشرة أضعاف عدد أعضاء المجلس التّشريعيّ، وكل قائمة تزعم أنّها ستحصل على عشرة مقاعد على أقلّ تقدير! مع أنّ الواقع يقول أنّها لن تعبر نسبة الحسم.
صحيح أنّ الإنتخابات التّشريعيّة والرّئاسيّة حقّ دستوريّ، ومطلب شعبيّ، لكنّ الصّراع على سلطة تحت الاحتلال أمر محزن، والتّنازل عن القدس لا يملكه أيّ شخص أو مجموعة مهما كانوا، فالقدس بمسجدها الأقصى وكنيسة القيامة جزء من العقيدة، وشاء حظّ الفلسطينيّين أن يكونوا سدنة لها نيابة عن العرب والمسلمين. ولا يمكن تخيّل دولة فلسطينيّة دون القدس، كما لا يمكن أن يكون المسجد الأقصى وكنيسة القيامة تحت سيادة غير فلسطينيّة عربيّة كما هو شأنها عبر التّاريخ، وما المحتلّون إلا "عابرون في كلام عابر" كما قال العظيم الرّاحل محمود درويش.
إنّ تأجيل الإنتخابات التّشريعيّة حتى تحين الفرصة لمشاركة القدس فيها دافع للعمل على استعادة الوحدة الوطنيّة، وإحياء منظّمة التّحرير بمشاركة جميع القوى، وإعادة تشكيل المجلس الوطنيّ لمجابهة الخطر الواقع، والعمل على الخلاص من الاحتلال وموبقاته، لتمكين شعبنا من حقّه في تقرير مصيره وإقامة دولته المستقلّة بعاصمتها الأبديّة القدس الشّريف.
وسوم: العدد 927