ماذا تركنا للاحتلال بعد جريمة بنات؟
من حيث المبدأ الاعتقال السياسي مدان بكل اللغات، خاصة في حالتنا الفلسطينية، حيث لا يزال شعبنا يرزح تحت الاحتلال ويكفيه ما يعانيه يوميا من أعمال قتل واضطهاد ومطاردة، على أيدي جنود الاحتلال والمستوطنين.
مرفوض رفضا قاطعا أن يُعتقل أي شخص لمجرد الخلاف في الرأي، أو لقناعاته السياسية، أو الدينية، بينما يترك الجواسيس وسماسرة الأراضي، لا يعترض طريقهم أحد، أو لنقل لا يتجرأ أحد على اعتراض طريقهم من الأجهزة الأمنية. ويحصلون على شهادات حسن سير وسلوك، بموجب اتفاق أوسلو المشؤوم، بينما يحرم منها الشرفاء من أبناء شعبنا. وينسحب الحال على المستوطنين الذي يعيثون في الأرض فسادا ويعربدون ويقتلون ويغتصبون الأراضي، ويقيمون البؤر الاستيطانية ولا يجرؤ رجال أمن السلطة على اعتقال أي منهم، لا لعيب فيهم بل لغياب القرار.
ومدان الاعتقال السياسي ألف مرة، عندما يتحول إلى جريمة قتل بشعة لشخص تعرض للاعتقال غير مرة، ولم تثبت إدانته امام المحاكم، معتقل يفقد حياته حتى قبل أن يصل إلى غرفة التحقيق، كما حصل مع نزار خليل محمد بنات المعارض المعروف للسلطة وسياساتها، من بلدة دورا جنوب الضفة، إن هذا اليوم، كما وصفه عضو الهيئة المستقلة لحقوق الإنسان المحامي فريد الأطرش، يوم أسود في تاريخ الشعب الفلسطيني، إن ما جرى “مؤلم ومقلق، ونطالب بالتحقيق ومحاسبة كل من شارك في الجريمة”. لا يمكن تبرير مثل هذه الجريمة البشعة التي أثارت احتجاجات شديدة في الأراضي الفلسطينية، لاسيما رام الله والخليل ودورا مسقط رأس نزار بنات، ومكان جريمة قتله بدم بارد، كما أثارت موجة من التنديد والإدانة على الصعيد الدولي والمحلي، وعلى مواقع التواصل الاجتماعي. وطالبت هذه الاحتجاجات باستقالة الحكومة ورئيسها محمد اشتية، الذي أوعز بتشكيل لجنة تحقيق.
إن ما ارتكبته عناصر الأمن الفلسطيني، فجر أول من أمس، بحق الناشط السياسي نزار بنات، عمل لا وصف له سوى إنه جريمة بشعة من الطراز الأول، واستهتار بحياة الناس من قبل الفاعلين، أيا كانوا والجهات التي ينتمون إليها، والجهات التي أصدرت الأوامر لهم. بين ليلة وضحاها وبدون سابق إنذار، ينتقل بنات المعارض من عالم إلى آخر، بينما كان غارقا في النوم في سريره، شاعرا بالأمن والأمان، لم يكن يعلم نزار بنات، أن هذه ستكون آخر ليلة في عالمنا، وأنه سيغادر إلى العالم الآخر بضربات من “عتلة” حديد يسددها إليه عناصر من الأمن الفلسطيني، الذين اقتحم المنزل نحو20 منهم ،حسب قول أسرته، من النوافذ والباب، بدون رحمة أو شفقة. لا أتفق مع نزار بنات سياسيا، ولا بمواقف قائمة الحرية والكرامة للانتخابات التشريعية، التي جرى تأجيلها، كما يقول البعض، وأنا شخصيا أطالب بإلغائها بالمطلق، لأنه لا يجوز إجراء الانتخابات في ظل الاحتلال، وتحت بساطير جنوده ومستوطنيه، ولا يجوز إجراء الانتخابات بدون القدس عاصمة فلسطين الأبدية. واختلفت معه وقائمته، عندما بعثت القائمة رسالة لدول الاتحاد الأوروبي، طالبت فيها بوقف الدعم المالي، الذي تقدمه للسلطة الفلسطينية، وأعتبر هذا الموقف موقفا حاقدا وغير أخلاقي وموقفا ساقطا سياسيا، خاصة أن هذا الدعم يستفيد منه الفلسطينيون العاديون في مجالات التعليم والصحة، ودفع مساعدات مالية للأسر الفقيرة، ولا يستفيد منه رؤوس السلطة. واعتبرت هذه القائمة قرار التأجيل “غير شرعي وغير دستوري، ويمثل اغتصابا للسلطة وجريمة بحق الشعب الفلسطيني وقضيته”.
بيد أن مواقفه هذه ومواقف قائمته، أو تجمعه سمه ما شئت، ليست ذريعة لاعتقاله، ناهيك من قتله تحت التعذيب، ولكن أيا كان موقف نزار بنات من السلطة وقيادتها وسياساتها، فإن الشيء الذي أعرفه جيدا ومتمسك به، ولن أحيد عنه هو، الرفض المطلق للاعتقالات السياسية، وعلى وجه الخصوص في حالة كحالتنا الفلسطينية، ألا يكفي شعبنا ما يفعله يوميا به جيش الاحتلال والمنظومة الأمنية الإسرائيلية، ومنها الشاباك والمستعربون وجنود الاحتلال؟ إن اعتقال بنات لقناعات سياسية، غير مبرر وأمر مرفوض، ناهيك من الأسلوب الوحشي الذي اقتُحم به منزله وإرهابه وإرهاب من كان فيه في ساعات الفجر الأولى، بالأدوات الحادة التي استخدمت لاقتحام المنزل من نوافذه وبابه، الذي جرى تفجيره، وضربه وهو في سريره، وسحله كما قال أفراد من عائلته إلى إحدى سيارات الأمن العديدة، التي كانت تطوق المنزل، ليصل إلى مقار الأمن وهو جثة هامدة. على جيش الاحتلال والأفرع الأمنية الإسرائيلية المختلفة، أن يرفعوا القبعة لأجهزة الأمن الفلسطينية والاعتراف بتفوقها عليه بأساليب الاعتقال والتعذيب، وتعليمها وسائل قمع جديدة في التعامل مع أبناء شعبنا، إذن ماذا تركت الأجهزة الأمنية الفلسطينية لأجهزة أمن الاحتلال؟ كيف يمكن من الآن فصاعدا أن نوجه الانتقاد لقوات الاحتلال، ووحدات المستعربين ورجال الشاباك، وهو يسوقون الشباب الفلسطيني من منازلهم في ساعات الفجر الأولى، على الأقل سيرا على الأقدام وليس سحلا، ويصل إلى أروقة التحقيق حيا لا جثة هامدة؟ بأي وجه سنطالب بمحاسبة جيش الاحتلال والأجهزة الأمنية الاخرى على أفعالهم بعد هذه الجريمة؟
ماذا ستكون ردود أفعالنا لو دخلت أجهزة الإرهاب الصهيونية لمنزل فلسطيني لاعتقاله واخرجته من منزله جثة هامدة؟ كيف ستتعامل السلطة الفلسطينية ومؤسساتها وأجهزتها مع هذه الجريمة النكراء؟ فتشكيل لجنة تحقيق لا يكفي، يجب اعتقال كل من له يد في هذه الجريمة من قريب أو بعيد، ووقفهم عن العمل لحين الانتهاء من التحقيق، وتقديم المتورطين والمشاركين في جريمة القتل للعدالة حتى ينالوا جزاءهم.
وأختتم بالقول، إن نزار خليل محمد بنات لم يكن مسلحا ولا مجرما مطلوبا ولا جاسوسا ولا مسرب أراض للاحتلال، حتى يعامل بهذه الطريقة الفظة التي أودت بحياته. إذ لم يكتف رجال الأمن بما فعلوه به، وهو في سريره غارقا في النوم، بل عروه من ملابسه قبل أن يسحلوه إلى سيارة الاعتقال، وهم ينهالون عليه بالضرب والشتيمة والإهانة. هذه ليست أفعال بشر مثلنا، بل هم وحوش ضارة يجب استئصالها من بيننا، يجب تنظيف شعبنا من هؤلاء القتلة.
ما كان ينقص السلطة الفلسطينية مزيدا من الضربات والخسائر السياسية، لتأتي جريمة قتل بنات لتزيد الطين بلة، ويستخدمها المستغلون وتزودهم بالذخيرة، ولا تلوم السلطة إلا نفسها، فهي التي حشرت نفسها في الزاوية بسبب سياسات متحجرة، لم تحاول أن تخرج نفسها منها بخطة محكمة لمواجهة الاحتلال، ضمن تصور عام تشارك فيه كل الأطراف وتنصهر فيه كل الجهود وتقطع فيه الطريق على الحاقدين والناقمينن وحتى على أمريكا التي رفعت صوتها عاليا تدين الجريمة وتطالب بتحقيق نزيه شفاف، وهو مطلب حق يراد به باطل. وهي الدولة الكبرى التي ترى يوميا الجرائم التي ترتكب في فلسطين، وتطال الشجر والحجر قبل البشر، ولا تحرك ساكنا ولا ترفع صوتها مدينة هذه الأفعال. ولهذا فإن على السلطة ومن ورائها حركة فتح، أن تضع جل جهودها للإسراع في كشف حقيقة الجريمة البشعة التي ارتكبت بحق المعارض بنات، وبدون مماطلة وتسويف، للوقوف على ما حصل، وإن كان هناك قرار مسبق بتصفيته، واعتقال جميع من لهم علاقة بهذه الجريمة من مصدري قرار الاعتقال ومنفذيه بهذا الأسلوب الإجرامي، الذي يعيدنا ذاكرتنا إلى أساليب أنظمة القمع العربية والأنظمة الطاغية في أمريكا اللاتينية في سبعينيات القرن الماضي. يجب أن نرفع جميعا أصواتنا عالية ونقول لا وألف لا، للاعتقال السياسي، ونعم للوحدة الوطنية القائمة على تعدد الآراء وعلى المقاومة بجميع أشكالها، لا وألف لا للاعتقال السياسي ونعم لادخار جهودنا وطاقاتنا لمواجهة المحتل ومغتصبيه وكنسهم من على أرضنا، وتحقيق الاستقلال. لا بد من أن تعاد البوصلة إلى مسارها الصحيح.
وسوم: العدد 935