دوافعُ النخوةِ الأمريكيةِ لإنقاذِ السلطةِ الفلسطينيةِ
تكاد تكون الصرخة المدوية التي أطلقها مساعد وزير الخارجية الأمريكية للشؤون الفلسطينية والإسرائيلية هادي عمرو، هي الأولى من نوعها بهذه الصراحة والقوة والوضوح، التي يطلقها مسؤولٌ أمريكيٌ كبيرٌ، يحذر فيها إسرائيل والإدارة الأمريكية والمجتمع الدولي كله، من الآثار الكارثية المترتبة على انهيار السلطة الفلسطينية، التي وصفها بأنها آيلة للسقوط والاحتراق.
إلا أن تحذيرات هادي عمرو لم تقتصر على سياسة إسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية تجاه السلطة الفلسطينية، التي وصفها بأنها قاسية ومؤلمة، وأنها السبب في ضعف أداء السلطة واهتزاز صورتها، وإنما طالت تحذيراته السلطة الفلسطينية نفسها بمختلف أجهزتها الحكومية والإدارية والأمنية، وحملها جزءً كبيراً من سوء الأوضاع في المناطق الفلسطينية، وذلك بعد سلسلة من اللقاءات التي أجراها مع عددٍ من الشخصيات الفلسطينية المستقلة، وبعض رموز الحراك الشعبي الأخير "ارحل"، من المعروفين بمعارضتهم للسلطة الفلسطينية، ومن المؤيدين للمقاومة، والمشهود لهم بالمواقف الوطنية من الاحتلال الإسرائيلي.
ونقل عن عمرو أنه استمع إلى شهاداتٍ مباشرةٍ من الفلسطينيين الذين التقاهم في القدس الشرقية، بترتيبٍ مسبقٍ من القنصلية الأمريكية في القدس، واطلع على انتهاكات السلطة للحريات العامة ولحقوق الإنسان، وتجاوزات الأجهزة الأمنية المتكررة، واعتمادها العنف في التعامل مع المواطنين الفلسطينيين، الأمر الذي قاد إلى مقتل الناشط نزار بنات في أحد مراكزها الأمنية، وشكى من التقاهم إليه سوء تعامل السلطة مع قطاع غزة، وأدانوا إجراءاتها العقابية ضد سكانه، وحرمانها موظفيه من حقوقهم.
ونقل إليه النشطاء الفلسطينيون صوراً عن فساد السلطة الفلسطينية، وتداعيات قرارها بإلغاء الانتخابات التشريعية، وتجاوزاتها للقانون الأساسي، وتغولها على القضاء وتدخلها في عمله، والتضييق على الحريات العامة ومحاسبة المواطنين على آرائهم، وسياسة الحد من الديمقراطية وحرية الرأي، وغير ذلك من الممارسات التي يعيبها الفلسطينيون على سلطتهم، فضلاً عن الفساد الإداري المستشري، وسوء الأحوال الاقتصادية بصورة عامة لدى مختلف المواطنين الفلسطينيين.
وحذر النشطاءُ من انهيارٍ مفاجئٍ في مناطق السلطة الفلسطينية، وانهيار كلي لمؤسساتها نتيجةً للسياسة الأمنية والاقتصادية التي تتبعها السلطة في مناطقها، وبسبب الحصار الإسرائيلي وسياسة العقوبات القاسية التي تنتهجها ضد الفلسطينيين عامةً.
شكل المبعوث الأمريكي هادي عمرو والفريق المرافق له فكرةً شبه كاملة عن الأوضاع الفلسطينية العامة، وعن التحديات الإسرائيلية وسياساتها الاستفزازية وعملياتها العدائية ضد الفلسطينيين عموماً، وعن انتهاكاتها لحقوقهم في المسجد الأقصى ومدينة القدس ومختلف مناطق الضفة الغربية، وأحاط علماً بالسياسات العقابية التي تمارسها ضد السلطة الفلسطينية، وتعمدها إحراجها وتشويه سمعتها لدى المواطنين الفلسطينيين، وتجميدها للعوائد الضريبية المخصصة لها بحجة أنها تصرف للأسرى والمعتقلين وذوي الشهداء، ورأى أن هذه الاجراءات تهدد سلامة استمرار عمل أجهزة السلطة المختلفة.
ودعا عمرو الحكومة الإسرائيلية التي تتعذر بضعف ائتلافها، وخشيتها من انهياره السريع في حال الإقدام على خطواتٍ سياسية تجاه الفلسطينيين، إلى وقف بناء مستوطناتٍ جديدة حول القدس، وخاصة على أراضي الفلسطينيين وفي بلداتهم، وعدم شرعنة البؤر الاستيطانية العشوائية، وتخفيض عدد الحواجز الأمنية في الضفة الغربية إلى الربع، والسماح بزيادة عدد العمال الفلسطينيين العاملين في مناطقهم، وتخفيف القيود المفروضة على تجارة الفلسطينيين الخارجية، ورفض القيام بأي إجراءٍ من طرفٍ واحدٍ، من شأنه أن يهدد مشروع حل الدولتين.
ربما أعجبت السلطة الفلسطينية بمواقف المبعوث الأمريكي من السياسة الإسرائيلية المعتمدة ضدها، وهي التي كانت تشكو منها كثيراً وتتذمر، لكن أحداً لم يصغِ إليها، ولكن ساءها جداً وأغضبها كثيراً قيام هادي عمرو بالاجتماع مع مستقلين ورجال أعمال ومعارضين ونشطاء فلسطينيين، واعتبرت هذا العمل بمثابة إساءة لها وتهميش لدورها، وتأليب للشارع الفلسطيني ضدها، ورأت أن المعلومات التي جمعها مغلوطة وغير صحيحة، أو أنها غير دقيقة ومبالغ فيها، ودعته إلى إعادة النظر في كل ما سمعه بشأنها.
لكن عمرو الذي نقل رسالةً شديدة اللهجة إلى الحكومة الإسرائيلية الجديدة، وحملها المسؤولية الكاملة عن انهيار السلطة الفلسطينية، وانتشار الفوضى وعموم الاضطرابات جميع مناطقها، دعاها إلى الكف عن استفزاز الفلسطينيين والتوقف عن محاولات طردهم من بيوتهم والاستيلاء عليها، ودان بشدةٍ قيام السلطات الأمنية الإسرائيلية بهدم بيت الأمريكي من أصل فلسطيني منتصر الشلبي، واعتبر أن هذه السياسات لا تخدم الاستقرار في المنطقة، بل تؤدي إلى خلق المزيد من العنف.
بالمقابل لم يتأخر هادي عمرو في لقاءاته المختلفة مع المسؤولين الفلسطينيين، وفي المقدمة منهم رئيس الحكومة محمد شتية وغيره، عن توجيه اللوم الشديد إلى سوء إدارتهم، وإلى تردي الأوضاع العامة في المناطق الفلسطينية لجهة حقوق الإنسان، والتضييق على الحريات العامة، ودعاهم إلى تحسين أدائهم، والشفافية في عملهم، ونقل إليهم استياء الرئيس الأمريكي جو بايدن شخصياً من خشونة تعامل الأجهزة الأمنية مع المتظاهرين والمحتجين على حادثة مقتل الناشط نزار بنات.
مما لا شك فيه أن هناك تغيير ملموس في السياسة الأمريكية تجاه الإسرائيليين ومع الفلسطينيين، الذين منحوهم المزيد من الدعم لصالح الأونروا والمؤسسات الدولية، وأكدوا على سرعة المباشرة في إعادة إعمار قطاع غزة، ومساعدة سكانه والنهوض بالأوضاع المعيشية للفلسطينيين عامةً، الأمر الذي يثير الاستغراب والكثير من الأسئلة عن الأسباب الحقيقية وراء النخوة الأمريكية، فما اعتدنا مثل هذه الغضبة، وما سبق لنا أن شهدنا مثل هذه الغيرة والنخوة، فلماذا؟....
وسوم: العدد 938