لا نضال ضدّ ضحايا الاستبداد

ما إن طالب رئيس مجلس شورى حركة النهضة عبد الكريم الهاروني الحكومة في التسريع بإجراءات جبر الضرر لضحايا الاستبداد. حتّى تتالت عليه الهجومات من كل حدب وصوب. فكأنّ المهاجمين على موعد مع الهجوم ولا ينتظرون إلاّ ساعة الصفر. وللتّذكير فإنّ مسار العدالة الانتقالية يعلمه القاصي والدّاني فضلا عن أنّ تمويل صندوق جبر الضرر تتكفّل بتمويله منظمة الأمم المتحدة وبعض الدول الصديقة. إلاّ أنّ هذه الحيثيات الموضوعية لم تمنع المهاجمين من التحجّج بتعلّات واهية واتّهام حركة النّهضة بمحاولة السطو على نهب ميزانية الدولة وتوزيعها على الإسلاميين.

والمتابع لردود الفعل حول الموضوع يتبيّن له أنّ المهاجمين ينقسمون إلى فريقين.

  • فريق يتبع المنظومة القديمة :

هذا الفريق هو أساسا عصابة بن علي الإجرامية التي كانت تأتمر بأوامره وتنفّذ سياسته الإجرامية(فلول التجمّع). لقد أجرم هذا الفريق مرتين في حق المناضلين : مرّة أولى عندما حاصرهم وشوّههم وساهم في تشريدهم وتعذيبهم وسجنهم في سنوات الجمر. ثمّ مرّة أخرى عندما يصرّ اليوم على مزيد تشويههم واتهامهم بالباطل ومحاولة تأكيد رغبتهم في الاستحواذ على أموال التعويضات. ومن المفارقات العجيبة أنّ هذا الفريق لم يكتف بذلك بل اشترط ربط النضال بموافقته المسبّقة. فصرّح بالقول بلغة وقحة "نحن لم نكلّف أحدا بالنضال من أجلنا" ! ! ! فما لم يحصل عليه زمن الاستبداد بالقوّة وبالقهر والتهديد والتعذيب يحاول الحصول عليه زمن الثورة بالمراوغات والألاعيب السياسية التي لا تنطلي على أحد. وبهذا المنطق فلا غرابة أن يحدّد هذا الفريق مستقبلا الشروط الضرورية لنيل ترخيص نضال. وقد تنحصر في بطاقة عدد3 وشهادة حسن السيرة من طرف العمدة.

ثمّ أنّ هذا الفريق أجرم أيضا في حق الشعب مرّتين : مرّة عندما اختلس مقدّرات الدولة وأموال الشعب وخصّ بها نفسه. فقد صرّح سليم شيبوب بأنّ بن علي استولى على مبلغ يوازي 3 مرّات ميزانية الدولة (مبلغ يفوق 100 ألف مليار ويفوق بكثير 3000 مليار) وهرّبه إلى خارج البلاد. ولقائل أن يقول : لماذا لم يشن هذا الفريق هجوما على بن علي وجماعته ؟ والجواب ببساطة شديدة : هو أنّ الإنسان لا يشوّه نفسه. فكلّ عنصر من هذا الفريق هو نسخة من المخلوع بن علي وهو فرعون بذاته. ولو أتيحت السلطة لأيّ منهم لفعل مثل ما فعل المخلوع بن علي وربّما أكثر.

وقد أجرم هذا الفريق في حق الشعب مرّة ثانية عندما تصدّى لحصول تونس على مبلغ 3000 مليار بعنوان جبر ضرر للمتضرّرين كانت ستساهم في تنشيط الاقتصاد وتحريك الدورة الاقتصادية للبلد وللشعب ككل.

إنّ هذا الفريق لا يؤمن بحوار ولا يؤمن بمنطق سليم ولا ينفع معه إلاّ منطق القوّة وفي هذا يقول أبو تمام : السيف أصدق أنباء من الكتب في حده الحد بين الجد واللعب. فعبير موسي نفسها اعتذرت للشعب وللمناضلين في أوج الثورة. ولكن وبمرور الوقت وتغليب لغة الحوار والتوافق تمرّدت على الثورة والشعب وساهمت بشكل كبير في ترذيل الحياة السياسية.

  • فريق ثان لم ينتم إلى المنظومة القديمة لا فكرا ولا ممارسة. ولكنّه لم يناضل ضدّ الاستبداد. ولم يكلّف نفسه عناء خوض المعارك السياسية والميدانية من أجل فرض الحريات. وتربّى في بيئة استبدادية تحضّ على قهر النّفوس. وتميل نفسه إلى القبول بإملاءات منظومة الاستبداد والتعايش معها. وإلى قابلية التأقلم معها إلى حدّ الانبطاح. فكلّ همّه الركض اليومي للحصول على لقمة العيش. وهو يقيّم الثورة بالدينار ولا يستحي من القول بأنّ الظروف المعيشية في زمن المخلوع كانت أحسن بكثير من ظروفنا الحالية. هذا الفريق يمثّل الأغلبية الصامتة ويتكوّن من عموم الناس ومن المثقّفين والمتعلّمين ومن المصلّين...

وبين ليلة وضحاها وفي صحوة بين غفلتين أصبح هذا الفريق يروم النضال هو الآخر. ويدلي بدلوه في هذا المجال ولا يريد أن يبقي على الهامش أمام العالم. وحتّى يستقيم نضاله حدّد خصما له على المقاس لذلك فاختار لنفسه "عدوّا" و"مستبدّا" على مقاسه بإمكانه تسديد الضربات الموجعة والانتقادات اللاّذعة له دون انتظار لردّات فعل مؤلمة. ولم يكن هذا "المستبد" سوى حركة النهضة. غير أنّ الحقيقة ليست كذلك لأنّ حركة النهضة في صلب السلطة وخارج السلطة في آن معا. في السلطة وتبحث على الطرق والوسائل لتفكيك الدولة العميقة. هذه الدولة العميقة التي لا تزال السلطة الحقيقية بين أيديها.

فكلّ ما فعله هذا الفريق هو أنّه ارتمى على "مستبدّ" يقدر عليه ونادى برحيله. وهو ما يذكّرني بقصّة حدثت وأنا لازلت صغيرا ملخّصها أن إحدى مزارع البرتقال كان لها حارسا ورغم ذلك فقد كانت تتعرّض للسرقة من بعض الشبان. فأراد هذا الحارس يوما أن يثبت لصاحب المزرعة أنه قادر على القبض على سارق البرتقال. فقبض على تلميذ مار عمره لا يتجاوز 12 سنة ولا علاقة له بالسرقة وقال لمشغله هذا هو السارق. ولكنّ صاحب المزرعة كان ذا عقل رشيد. فاعتذر من الطفل وأخلى سبيله.

فهذا الفريق لا يهاجم المستبد الحقيقي المتمثّل في رموز الدولة العميقة ويتغافل عنها لأنّه إن هاجمها فعليا فسيكون مآله الإقصاء مستقبلا من الامتيازات والوظائف والترقيات.

وسوم: العدد 939