ازدواجية التقاطع والتناقض في إدارة الصراعات
لنتوقف أمام بعض الأمثلة في السياسة الدولية، ولنبدأ بالولايات المتحدة الأمريكية، حيث نجد أول ما نجد فروقاً بين جملة من سياسات كل من الرئيس الأمريكي جو بايدن والرئيس دونالد ترامب، ليس في السياسة الداخلية فحسب وإنما أيضاً - وبصورة صارخة - في السياسات الدولية. وهو ما لم يحدث قط بين أيٍّ من عهدين منذ ما بعد الحرب العالمية الثانية. وكذلك بالطبع قبلها. ونلحظ أيضاً أن إدارة جو بايدن لم تستقر بعد على إرساء استراتيجية ثابتة متماسكة في علاقاتها مع الصين أو روسيا. وقد اجتمعت العداوة مع الصين بعلاقات اقتصادية هائلة، واجتمعت العداوة لروسيا بتقاطعات وحوارات إيجابية في آن واحد.
وينطبق هذا الجديد الغريب في العلاقات الأمريكية بالكيان الصهيوني، حيث أخذت تتسم بالفتور والتعارض بالرغم من التحالف والتبني التقليديين.
ارتبكت أمريكا أثناء الانتفاضات وسيف القدس، ولم يكن عندها غير المطالبة بوقف إطلاق النار والتهدئة، ثم "الضغط" على "عدم استفزاز الفلسطينيين".
وانظر إليها وهي تشد الرحال من أفغانستان بما يشبه الاستسلام لطالبان، وانظر إليها وهي تفاوض على الرحيل من العراق. وتكشف ارتباكها أكثر في المفاوضات النووية مع إيران، فإن توصلت إلى اتفاق فهي مهزومة، وإن استمرت في التأزيم والحصار استمرت في صراع يؤثر في صراعها المرتبك مع كل من الصين وروسيا. وعادت إلى استراتيجية الغرق في "الشرق الأوسط" الفاشلة.
وقارن كيف تصرفت مع لبنان عام 1958 وكيف أرسلت قواتها إليه، وكيف تصرفت عام 1982 وهي توجّه مدافع أسطولها إليه، مع تصرفها الآن الذي يعتمد على التعطيل والتخريب والعقوبات، ومن دون أن تعرف أين ينتهي الوضع المتدهور.
عندما زار جو بايدن أوروبا، وفي جعبته إعادة بناء التحالف الأطلسي، أو تحالف أوروبي- أمريكي جديد، وجد نفسه أمام شروط أوروبية بعيدة من الخضوع السابق والتبعية السابقة. ولم يعد من الممكن الحديث عن تحالف أمريكي- أوروبي، وإنما علاقة تقاطع وتباعد، في آن واحد. فدول أوروبا تريد التعامل مع روسيا والصين، أيضاً، بعلاقة تقاطع (التلاقي والتعاون) والتباعد (التنافس والاختلاف) في آن واحد.
وأوروبا نفسها التي طمحت يوماً بأن تكون لها سياسة موحدة، وخطت عدة خطوات في هذا السبيل أخذت تدخل في ما بينها في مرحلة جديدة من التقاطع والتباعد، لا سيما بين ألمانيا وفرنسا. ويأتي خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي ليمثل صورة صارخة لهذه الظاهرة في عالم اليوم.
ولو جئنا إلى روسيا وعلاقاتها الدولية فهي تتحرك كدولة كبرى تقلع شوكها بيديها وتغني على ليلاها، ويخطئ من يظن أن علاقتها بالصين أو إيران أو أية دولة تقوم على منهج التحالف كما في عالم الحرب الباردة. ومع ذلك تجدها تعزز علاقاتها بالصين حتى تكاد تقول هما في حلف، ولكن خطوط التفاوض مع أمريكا مفتوحة من قبل الطرفين من دون تنسيق، وفي أحسن الحالات يوضع الآخر في صورة ما جرى ويجري. أيضاً لا تجد تنسيقاً في علاقة كل منهما مع إيران أو مع أوروبا، أو الكيان الصهيوني، أو مع أية دولة أخرى في العالم. فلكل سياسته المختلفة بهذا القدر أو ذاك، وقد شذت حالة التوافق على فيتو مشترك في الموضوع السوري مثلاً.
لعل مثال علاقة كل من روسيا والصين بكل من إيران والكيان الصهيوني، يعطي صورة أدق لظاهرة التقاطع والتباعد أو التناقض مع طرفين هما في حالة حرب تكاد تكون مصيرية لكل منهما. ثمة علاقات إيجابية واستراتيجية وطويلة الأمد حتى تكاد تقول تحالفية مع إيران، ولكن في الآن نفسه، تجد إقامة علاقات تقنية وعسكرية وسياسية واقتصادية مع الكيان الصهيوني، وقد أقلقت أمريكا.
المعادلة التي تديرها روسيا مع كل من سورية والكيان الصهيوني، وهما في حالة حرب يومية تشكل نموذجاً لهذه الازدواجية في العلاقات. وتشكل تعبيراً صارخاً عن سمة التقاطع والتناقض، في آن واحد، في العلاقات الدولية.
لهذا تجد العقل الذي تعوّد على المنطق الذي ساد العلاقات الدولية في المراحل السابقة لا يستطيع أن يجد "معقولاً" في ما يجري في عالم اليوم، الأمر الذي يفرض عليه أن يغيّر منطقه في قراءة ما هو معقول وما هو غير معقول. فما هو واقعي، وموضوعي، وممارس، يجب أن يُعتبَر معقولاً. طبعاً من دون أن يُبرَّر، أو يُتخَذ نموذجاً يُقتدى. فأنت تستطيع أن تُنكر أي واقع وتنقده، أو تثور ضده، ولكنك لا تستطيع أن تقرأه قراءة خاطئة على هواك.
وخلاصة، ولّت مرحلة الحرب الباردة وأحلافها وتكتلاتها. ولم تعد القراءات والموضوعات التي سادت في تلك المرحلة صالحة في قراءة الوضع الجديد، وما يسوده من علاقات بين دوله، أو حتى داخل الدولة الواحدة. ويرجع ذلك أساساً لما حدث من تغيّر في موازين القوى العالمية والإقليمية، وحتى داخل الدول، ولا سيما داخل الدولة القُطرية العربية.
إن تشكل الأحلاف والمحاور يتطلب توفر قوة قائدة ذات قدرة على السيطرة والتوجيه والتفرد، أما ما يحدث الآن فقد أدى فقدان أمريكا لسيطرتها على الغرب وعلى أجزاء شاسعة من العالم إلى بروز حالة تعدّد القطبية، بالرغم مما بين الدول الكبرى من تفاوت في القوة والقدرة. من هنا برزت ظاهرة القدرة على التعطيل والتخريب مقرونة بعدم قدرة أي طرف على السيطرة وفرض نظامه، الأمر الذي ولد في الآن نفسه ظاهرة التقاء أو تقاطع مصالح أو سياسات هنا، وتناقضها وتعارضها هناك في الآن نفسه.
مثلاً روسيا والصين: تتقاطع مصالح وسياسات كل منهما مع إيران، ولكن في الآن نفسه تبني كل منهما علاقات قوية اقتصادية وسياسية وحتى عسكرية مع الكيان الصهيوني، أو مع دول خليجية أو عربية في تناقض عدائي مع إيران. وقد وصل الأمر إلى أن تعقد روسيا صفقات تسلح مع كل من مصر وإثيوبيا، فيما التناقض بينهما يهدد باندلاع صراع مسلح. وتجد الطرفان الإثيوبي والمصري يبتلعان هذه العلاقة الروسية بين كل منهما، أي يقبلان بها على هذه الصورة.
لو أخذنا مثلاً آخر من لبنان، حيث نجد ظاهرة قدرة كل طرف من الأطراف الرئيسية على تعطيل تشكيل حكومة أو الوصول إلى توافق عام. ولكن في الآن نفسه لا يمتلك أي طرف من الأطراف أن يفرض سيطرته، أو رؤيته في التقدم بحل.
وترجع هذه المعادلة بدورها إلى المعادلة في الوضع العربي- الإقليمي، حيث لا يستطيع أي طرف من الأطراف الكبرى الرئيسية أو الدولية أن يفرض نظاماً إقليمياً ضمن رؤيته وفي إطار قوته، كما لا تستطيع الأطراف الأخرى دولية أو إقليمية أن تفرض عليه نظاماً إقليمياً بديلاً للنظام الإقليمي الذي انهار، وقد ساد لستين أو لسبعين سنة ماضية.
من هنا فإن كل الذين يتحدثون عن اتفاقات ومساومات دولية وإقليمية قادمة لمنطقتنا العربية والإسلامية، يعيشون في أوهام المرحلة السابقة، ولا يلحظون موازين القوى الراهنة وما يسودها من سمات مرّ ذكرها؛ تجعل من غير الممكن أو المتوقع رسم خرائط جديدة للمنطقة تقوم على أساس المساومات والمخططات السابقة بقيادة أمريكا ورضا الكيان الصهيوني.
من هنا تحتاج كل دولة وكل طرف إلى إدارة الصراع على ضوء موازين القوى الجديدة التي ولّدت الظواهر أعلاه، والتي يحكمها قانون سياسات التقاطع والتناقض في آن واحد، ويحكمها قانون قدرة كل طرف على التعطيل، مع عدم القدرة على فرض نظام إقليمي جديد، أو فرض حل لوضع داخلي مضطرب، كما فقدان عدد من الدول القطرية العربية السيطرة على الأوضاع في قطرها، أو على ما حولها.
هذا الوضع الجديد بسماته آنفة الذكر يتجه إلى مزيد من ضعف السيطرة الأمريكية العالمية، والسيطرة الأمريكية- الصهيونية إقليمياً. ومن ثم قد راح يحمل في طياته فرصاً لأن يلعب الشعب الفلسطيني ومقاومته أدواراً ناجحة في الصراع مع العدو الصهيوني، وصولاً إلى دحر الاحتلال وتفكيك المستوطنات بلا قيد أو شرط، والتهيئة لمواصلة المسار لتحرير فلسطين كل فلسطين. وإن الأمر لكذلك على المستوى الإقليمي للفرص المتاحة لمحور المقاومة لتحقيق إنجازات، ثمة مواقع قائمة، وثمة مواقع تنهار، وثمة عالم ينهار، وعالم في طور التشكل.
وسوم: العدد 940