أمريكا والاونروا .. الإبتزاز في اسوأ صوره
إذا كان مفهوما من قبل اللاجئين الفلسطينيين أن المساهمات المالية التي تقدمها الدول المانحة الى وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (اونروا)، امر يعتمد على سياسة الدول واستراتيجياتها الخارجية في تعاطيها مع المنظمات الدولية، غير ان الغرابة والاستهجان، هو ان تقف دولة وتعلن انها لن تقدم اي دعم مالي، ما لم تلب مطالبها السياسية. هذا ما فعلته الولايات المتحدة مؤخرا في تعاطيها مع وكالة الغوث، سواء عندما اوقفت عنها مساهمتها المالية او حين استئنافها، حيث ربطت استمرار دعمها المالي باستجابة المنظمة الدولية لعدد من المطالب السياسية..
لقد إعتادت وكالة الغوث ان تضع اولويات برامجها بحرية ودون تدخلات خارجية، ووفقا لحاجات اللاجئين، ثم تطلب من الدول المانحة تمويل تلك البرامج بالصورة التي تراها مناسبة. وعلى هذه القاعدة حق للدول المانحة ان تختار القطاع او البرنامج المعين الذي تخصص دعمها له، كأن تقول مثلا ان دولة ما قدمت تبرعا مخصصا لقطاع التعليم في قطاع غزه، او دولة اخرى قدمت دعما لشبكات البنى التحتية في لبنان وهكذا.. هذا امر حصل في الكثير من المرات، وهو يعتمد على سياسة الدولة ذاتها، إذ هناك دولا تركز على دعم قطاعات الصحة في الدول الفقيرة، واخرى تعطي الاولوية لبرامج الاغاثة، وثالثة تفضل دعم مجال الحريات الديمقراطية او قضايا حقوق الانسان، وغير ذلك من اشتراطات تبقى منطقية ومقبولة.. طالما انها لا تنتقص من حقوق المستفيدين ولا تتناقص مع الانظمة الداخلية للمنظمات المعنية.
غير ان الادارات الامريكية المتعاقبة تعمل على تكريس منطق جديد في تمويل المنظمات الدولية، من خلال اتباع سياسات غير ديمقراطية وتتسم بالعنجهية والتسلط. ففي حزيران 2021 اعلنت الادارة الامريكية فرض عقوبات على قضاة وموظفي المحكمة الجنائية الدولية في اطار ابتزاز المحكمة ودفعها لصوغ استراتيجيات تنسجم والمواقف الامريكية، وفي تموز من العام نفسه أعلنت انسحابها من منظمة الصحة العالمية في اطار تداعيات جائحة كورونا، وفي الشهر نفسه اعلنت انسحابها من مجلس حقوق الانسان التابع للامم المتحدة بذريعة "انحيازه ضد اسرائيل"، وفي تشرين الثاني من عام 2021 اعلنت انسحابها من اتفاقية المناخ، بحجة " ان الاتفاقية تفرض اعباء اقتصادية على الولايات المتحدة".. وكل هذه السياسات انما تؤشر الى حقيقة واحدة هي ان المنظمات والمؤسسات التي لا تسير وفق سياسات الولايات المتحدة، ستكون هي وموظفيها اما في مرمى الاستهداف الامريكي المباشر او سيعمل على معاقبتها بقطع التمويل عنها وتحريض دول اخرى على اتباع السياسة ذاتها..
الاستراتيجية الامريكية في تعاطيها مع وكالة الغوث الخاصة باللاجئين الفلسطينيين لا تختلف عن استراتيجية التعاطي مع المنظمات الدولية بفرض الشروط المسبقة تمهيدا لفرض الارادة السياسية عليها، هذا ما فعلته الادارة الامريكية السابقة في عهد ترامب، الذي قال في بداية عهده: "نقدم المال ولا نحصل على التقدير"، اي ان التقدير المطلوب بنظر الرئيس الامريكي من وكالة الغوث هو الاستجابة للمواقف الامريكية، سواء ما له علاقة بالمكانة القانونية للاجئين الفلسطينيين وتعريفهم من قبل الاونروا، او لجهة المشاركة في رسم سياسات الاونروا وصوغ برامجها لتكون منسجمة مع المشروع الامريكي الاسرائيلي، الذي بات واضحا ان هدفه هو الغاء وكالة الغوث وتحويل خدماتها الى المفوضية العليا لشؤون اللاجئين التابعة للامم المتحدة وفق ما اعلنه رئيس وزراء العدو نتنياهو عام 2018 حين قال: "الاونروا منظمة تخلد قضية اللاجئين الفلسطينيين وكذلك تخلد رواية ما يسمى بحق العودة. لذلك يجب ان تختفي".
حين رفضت الوكالة هذا المنطق في التعاطي معها واعلنت ان اهدافا سياسية تقف خلف مسألة قطع التمويل الامريكي، كانت استراتيجية الولايات المتحدة واسرائيل التصويب على مسؤولي الوكالة واتهامهم بالفساد وغير ذلك من تهم اكدت الامم المتحدة، ونتيجة تحقيق اجراه فريق خاص تابع لها، انها مجرد مزاعم لا صحة لها، ولم يثبت وجود شبهات فساد داخل اجهزة الوكالة، فكان الخطة البديلة الضغط لاقالة المفوض العام بما يحفظ ماء وجه الادارة الامريكية واسرائيل، اللتين انطلقتا، بعد استقالة المفوض العام السابق، الى خطة اخرى باستهداف مناهج التعليم بزعم تحريضها على العنف والكراهية..
إتفاقية الاطار الذي اعلن عن توقيعها بداية شهر آب بين وكالة الغوث والولايات المتحدة تشكل اسوأ صور الابتزاز السياسي والمالي من قبل الادارة الامريكية، التي تمكنت من ان تفرض على الاونروا قيودا تجعلها اسيرة الموقف الامريكي في صياغة برامجها وسياساتها، وتجعل الوكالة تعيش تحت ضغط دائم من امكانية قطع التمويل الامريكي، إذا لم تتوافق سياساتها مع الرغبات الامريكية والاسرائيلية، وهو ما يجب التوقف عنده من قبل جميع الهيئات والاطر الفلسطينية والعربية والدولية وحتى من قبل وكالة الغوث نفسها، التي هي من رفعت شعار "الكرامة لا تقدر بثمن" ، ولا نعلم ان كان مسؤولو الاونروا لا زالوا مقتنعون بهذا الشعار ومؤمنون بالسير على نهجه حتى مع الولايات المتحدة نفسها.
تحمل الوثيقة الكثير من الالغام والنصوص التي تجعل من الادارة الامريكية واسرائيل مرجعية للوكالة. فقد جاء في مقدمة الوثيقة انها "تشكل التزامات سياسية للسنتين التقويميتين 2021 و 2022.. وتعتزم الولايات المتحدة والأونروا العمل معا لتقديم الخدمات بكفاءة.. وتستخدم الوكالة إطارا لحياد مرافقها وموظفيها، وتشير الوثيقة الى متطلبات الحياد لكل من: (أ) الموظفين والعاملين بما في ذلك المبادئ التوجيهية بشأن استخدام وسائل التواصل الاجتماعي، (ب) مرافق الأونروا، (ج) أصول الأونروا، (د) الجوانب الأخرى لعمليات الأونروا مثل المانحين والشركاء.
وتبرز صور الابتزاز في اشتراط الولايات المتحدة انها لن تقدم أي مساهمات إلى الأونروا إلا اذا اتخذت جميع التدابير الممكنة لضمان عدم وصول أي جزء من هذه المساهمة إلى أي لاجئ تصنفه هي او اسرائيل بأنه يمارس عملا ارهابيا، ونعلم ان كل اشكال النضال الفلسطيني هي اعمال ارهابية بنظر الولايات اللمتحدة واسرائيل.
كما تم الاتفاق على "إلتزام الأونروا بالإبلاغ عن أي انتهاكات جسيمة للحياد مع الولايات المتحدة في الوقت المناسب ومعالجة أي انتهاكات من هذا القبيل بما يتماشى مع متطلبات إطار الحياد الخاص بها. وتحسين قدرة الوكالة على مراجعة الكتب المدرسية المحلية والمواد التعليمية لضمان الجودة التي تستخدمها لتحديد واتخاذ التدابير لمعالجة أي محتوى يتعارض مع مبادئ الأمم المتحدة في المواد التعليمية".
انطلاقا مما ذكر وغيره، فان هذا من شأنه ان يفتح الباب واسعا امام التدخلات الامريكية والاسرائيلية في اوضاع وشؤون الاونروا، كون الوثيقة - الاتفاق، تشكل قيدا كبيرا على عمل الوكالة التي تصبح هي وجميع برامجها اسيرة للارادة الامريكية.. فإلزام الاونروا، على سبيل المثال، بتقديم لوائح بموظفي الأونروا إلى الحكومات المضيفة، بما في ذلك السلطات الفلسطينية والإسرائيلية، من شأنه ان يحول الوكالة من منظمة دولية تعمل تحت اشراف الجمية العامة للامم المتحدة وامينها العام الى مخبر لدى الولايات المتحدة واسرائيل، اللتين ستتحكمان بأدق التفاصيل داخل الوكالة بذريعة ضمان حياد الموظفين تجاه ما يسمى الأعمال العدائية، أو الانخراط في خلافات ذات طبيعة سياسية..
كما ان الزام الوكالة بمراجعة الكتب المدرسية المحلية والمواد التعليمية، انما يشكل تساوقا مع الدعوات الاسرائيلية والامريكية والاوروبية في استهدافها السياسي لوكالة الغوث، التي اعلنت في من اكثر من مرة بأنها "تستخدم المناهج الدراسية للبلدان المضيفة في جميع أقاليم عملها، وتقوم بمراجعة محتوى المواد التعليمية باستفاضة.. وان هذا النهج يكفل الاتساق والمواءمة على نطاق الوكالة مع الأهداف التعليمية وقيم الأمم المتحدة"، الا ان اصرار الولايات المتحدة واسرائيل وحلفاءهما على مستوى بعض احزاب اليمين الاوروبي على ادانة الوكالة، يؤكد ان القضية الاساس ليست مناهج الوكالة بل الوظيفية السياسية والقانونية التي تشكلها وكالة الغوث باعتبارها احد المكانات الاساسية التي يستند اليها حق العودة لملايين اللاجئين الفلسطينيين..
ولعل اخطر ما حملته الوثيقة هو تعهد الاونروا بعدم "استخدام أي جزء من مساهمة الولايات المتحدة؛ لتقديم المساعدة إلى أي لاجئ تلقى تدريبا عسكريا "، وفي حال اعتقدت الولايات المتحدة ان الاونروا لم تلتزم بذلك، فهذا يعطيها الحق بقطع المساهمة المالية.. وهذا بدوره تجاوز لحقيقة ان المساهمات المالية للدول المانحة هي تبرعات طوعية غير مشروطة، واي التزام يترتب على وكالة الغوث نتيجة مثل هذه الاتفاقات فهي غير قانونية وتتناقض مع كون وكالة الغوث هي احدى منظمات الامم المتحدة التي تخضع للانظمة والمواثيق الداخلية للمنظمة، وهي بالتالي ليست ملزمة سوى باحترام تلك الانظمة..
لكل ذلك، وجب على جميع الحريصين على وكالة الغوث واستمرارية وديمومة خدماتها ان يرفضوا ما جاء في الوثيقة بسبب فرض الادارة الامريكية لشروطها السياسية على الوكالة، التي لم تحترم مبدأ الشفافية، وذهبت في اتفاقها مع الادارة الامريكية من وراء ظهر الشعب الفلسطيني ومرجعياته الوطنية ومن وراء ظهر الدول العربية المضيفة، وهو ما يشكل انتهاكا صريحا للتفويض الممنوح للوكالة من قبل الجمعية العامة التي اعطت الوكالة وهيئاتها المعنية الحق في رسم استراتيجياتها ووضع برامجها بعيدا عن التدخلات السياسية للدول الاعضاء وللدول المانحة..
اذا كان هدف الوثيقة هو حرص الولايات المتحدة الامريكية والامم المتحدة على مبادئ وقيم التسامح ونشرها بين الشعوب، فهل فكر هؤلاء، ولو لمرة واحدة، بمناهج التعليم الاسرائيلية التي تعج بنصوص لا تحرض على العنف والكراهية فقط، بل وتدعو الى القتل والارهاب، واكثر من ذلك، هي مناهج لا تعترف اصلا بوجود شعب فلسطيني ولا تعترف بالامم المتحدة وقراراتها، الا حين تتوافق مع مطامعها وسياساتها التوسعية.. لكن لم نسمع يوما من الولايات المتحدة او المنظمات التي تحرض بشكل يومي ضد المناهج التعليمية للوكالة وان كلفت نفسها عناء الاشارة الى المناهج الاسرائيلية التي تعمل بدعم مباشر من الحكومة الاسرائيلية وتتلقى دعما امريكيا يفوق ما تقدمه للاجئين الفلسطينيين عشرات المرات..
لم نكن نحتاج الى هذه الوثيقة كي نتيقن الدور الذي يريد البعض من وكالة الغوث ان تلعبه، ولم نكن بحاجة الى هذه النصوص كي نؤكد حقيقة تدخلات الولايات المتحدة في شؤون الاونروا وسياساتها، سواء بشكل مباشر او عبر تحريض دول العالم ضد الوكالة. نعم اليوم يتيقن الشعب الفلسطيني بصورة اكثر وضوحا حقيقة السبب وراء رفض الاونروا الاستجابة للاحتياجات المعيشية الملحة وعدم تجاوبها مع مطالب اقرار خطط للاغاثة والدعم الاقتصادي للاجئين، وقد سبق للولايات المتحدة في المراحل الاولى لعهد ترامب وان اشترطت عدم استفادة اللاجىين في سوريا ولبنان من المساهمة المالية الامريكية.
لكن رغم كل ذلك، فلا يمكن التسليم بالمنطق الاستعماري الذي تسعى الولايات المتحدة الى تكريسه في تعاطيها مع المنظمات الدولية ومع وكالة الغوث ومفاده ان الدول التي تدفع اكثر بامكانها ان تفرض السياسات التي تريد، ما يجعل من الكثير من المنظمات الدولية اداة بيد الدول الكبرى، خاصة تلك التي تعتبر المساهم الاكبر في موازناتها.. ومثل هذا المنطق لا يعني سوى ان كل قيم ومبادىء ومفاهيم العدالة وحقوق الانسان اصبحت رهينة بيد الدول الكبرى..
إن ما عجزت الولايات المتحدة واسرائيل وبعض حلفائهما عن تحقيقه في مرحلة ما بعد النكبة بجعل الاونروا جسرا للتوطين وتصفية قضية اللاجئين، لن تتمكن من تحقيقه اليوم بقوة الابتزاز المالي والسياسي. لذلك فهناك دور وموقف مطلوب من اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية في ردها على ما تضمنته الوثيقة من مخاطر على الوكالة وقضية اللاجئين، والتنسيق مع الدول العربية المضيفة المعنية بشكل مباشر في مواجهة ما يحدث.. كما بات مطلوبا على المستوى الفلسطيني صياغة استراتيجية وطنية على مساحة كل تجمعات الشعب الفلسطيني خاصة بوكالة الغوث وما ترمز اليه على المستويات القانونية والسياسية والخدماتية، بكل ما يتطلبه ذلك من حركة شعبية تجاه الدول المانحة والمنظمات الدولية لوقف سياسة الابتزاز المالي الذي تتعرض له الوكالة وابعادها عن دائرة الضغوط الامريكية والاسرائيلية..
وسوم: العدد 942