وسام فيروز ورحيل «أبو سليم» وفرية رابعة الزيات
يصعب أن تجد معارضة في العالم تتّسم بهذا القدر من التسامح ومحبة الآخر مثل المعارضة السورية، يتبدّى ذلك خصوصاً مع كل وفاةٍ جديدة لأحد رجال النظام وحرّاسه البارزين. ليس أسهل عندهم من رثاء وذِكر محاسن أعدائهم، التي يبدو أنها لا تعدّ ولا تحصى. إنْ تطرّف أحدُهم قليلاً قد يبلغ عبارةَ «له ما له وعليه ما عليه» هل مِنْ تَسَامُح أكثر!
قضى أمس أبو سليم دعبول، مدير مكتب حافظ الأسد ونجله بشار لحوالي خمسين عاماً، فانهالت رثاءات تمتدح الرجل وتذكر تفانيه في خدمة الناس وأهل بلده. إحدى المراثي جاءت أقرب إلى قصيدة حزينة، تتحدث عن «العم أبو سليم، كما يلقبه الجميع» الرجل الذي «يستيقظ صباحاً، يصلّي الفجر، ثم يذهب قبل بزوغ الضوء إلى القصر» «رجل المهمات الإيجابية والعطاءات».
هنا لا ينسى صاحب المرثية أن يذكّر: «أما المهمات السوداء المؤلمة فيتولّاها أمنيون، زوار الفجر». إن الراثي مبدع حقاً في ابتكار هذا التقابل بين رجل يحرص على صلاة الفجر، تماماً في الوقت الذي يقوم زوّار الفجر بمهامهم السوداء، ولا كأن أبو سليم يتفانى في خدمة الرجل نفسه، الذي يأتمر زوار الفجر بأوامره! ولا كأن أبو سليم لديه معرفة أساساً بالمهام السوداء.
يصرّ الراثي على القول (تقريباً) إن أبو سليم عصاميّ مكافح «بعد انتهاء دراسته، أدرك السلّم السليم للترقي. تدرّج وظيفياً في السراي الحكومي» بل يتمادى إلى وصفه باليساريّ، عندما يقرر أن الرجل عُرف بالمليونير الأحمر (احزروا كم من الأثرياء حازوا هذا اللقب؟!) «لتناقض اتجاهاته بين الثروة واليسار».
ثم تكاد المرثية تستعيد صورة الخليفة عمر بن عبد العزيز ساهراً يجري حسابات الخزينة للأمة على ضوء سراج شحيح: «يُروى، أن ذات يوم لاحظ دولة رئيس الوزراء خالد بيك العظم، ضوءاً مضاء في أحد مكاتب السراي، في آخر الليل. تكررت «الجريمة» فاستفسر عن «المجرم» وطلبه إلى مكتبه»! وبالطبع كان أبو سليم هو ذلك المتفاني في وظيفته، ساهراً «ينجز كل أعماله، على عكس المكاتب الأخرى المظلمة التي يذهب العاملون فيها إلى منازلهم قبل الانتهاء من أعمالهم».
كل هؤلاء «الأخيار» عملوا حتى النفس الأخير في ظل الطاغية، ولم تلوّث أيديهم وضمائرهم بالجريمة والدم، كانوا متفانين في خدمة الناس، منحازين للبسطاء، ولسوريتهم. نريد أن نعرف بأي أدوات ارتُكبت أطول جريمة دموية في التاريخ!
وسام فيروز
واحدة من مهام أبو سليم دعبول كانت على هامش العرض المسرحي «صح النوم» الذي قدّمته فيروز في دمشق العام 2008، ضمن احتفالية «دمشق عاصمة الثقافة العربية» آنذاك. العرض جاء في خضمّ جدل عنيف حول تلك الزيارة الفيروزية لدمشق، كان دم رفيق الحريري ورفاقه الذين قضوا اغتيالاً بأيدي «حزب الله» (ورفاقه) لم يجف بعد، وكانت الصحف قد امتلأت بتصريحات ساسة وكتاب لبنانيين تطالب فيروز بعدم الذهاب إلى دمشق.
كانت الصعوبة حينذاك كيف يمكن إقناع أبو سليم بأسباب رفض فيروز لوسام رئاسي معروض عليها، من يجرؤ على رفض هذه المكرمة! كان الرفض يتعلق بما قيل إنها تهديدات بالقتل جوبهت بها فيروز من قبل لبنانيين، ولم ترد السيدة أن تذهب أبعد. اقتُرح بدلاً من ذلك لقاء مع «الرئيس» وهذا ما حدث، بعيداً عن الأضواء وعن أي تغطية إعلامية. مقابلة لم يأت أبو سليم على ذكرها، كما لم يجرؤ على إذاعتها أيٌّ من المطلّين على الحكاية، وهي اليوم بعهدة فيروز وابنتها ريما التي حضرت المقابلة.
فرية رابعة الزيات
تسأل المذيعة رابعة الزيات كاتب السيناريو السوري رامي كوسا إن كان مع النظام، فيقول: «ما في مثقف يمكن أن يناصر السلطة» ورغم أنه جواب عمومي حيث يمكن للمرء، حسبه، أن يكون ضد السلطة حتى في ألمانيا، حيث سيجد المثقف الطموح دائماً ما ينتزعه من السلطة لمصلحة الشعب، فإن كوسا يستدرك على الفور «مُعارِض ضمن محددات» ويشرح: «الحالة في سوريا ليست صحية، اليوم هناك حرب، مصالح دول كبيرة. لا أستوعب معارضاً يغيّر علم بلده، أو يدعو للتسليح، أو يستعين بدول خارجية كي يعمل تغييراً في الحياة السياسية في سوريا» ذلك هو اختصار رامي كوسا للمعارضة السورية، لا شيء هناك بالنسبة له خارج العَلَم والتسليح ومصالح الدول!
ليست المسألة في أننا عثرنا على جواب يحدّد أين يقف الشاب السيناريست، مع النظام أو ضده، بل في هذا الاتهام وهذه الإدانة لجميع معارضي النظام. عليك إذاً أن تعارض ضمن محددات الكاتب نفسها، تلك التي تترجم أحياناً إلى «تحت سقف الوطن» أو في حضنه.
الأخطر في المقابلة كان في السؤال عن اللاجئين؛ تسأل الزيات ضيفها: «هل أنت مع بقاء اللاجئين في لبنان؟» يجيب كوسا: «هم حالات. كل حدا عنده جواب. في ناس خيفانة». لكن للمذيعة جوابها الاتهامي اللئيم: «نحن استضفنا لاجئين في البرنامج، وكانت معظم الأسباب أنهم عم يقبضوا من منظمات دولية»!
تحار حقاً كيف تجيبها، ولا تنتظر بالطبع من ضيفها أن يفعل، أن يردّ عن مواطنيه هذا الاتهام الخسيس. كيف تقول لها إن جعالة المنظمات الدولية لا يمكن أن تكون بديلاً عن بيت وأحباب مفقودين وربما أراض ومهنة.
ما الذي يدفع لاجئاً لكي يترك بلده (ونتحدث هنا ملايين اللاجئين السوريين) ويعيش محتمِلاً إهانات وافتراءات وعنصرية لولا أن هناك في بلده ما هو أفظع بكثير؟!
وسوم: العدد 945