كيفية تغيير واقع الأمة

المنهج الإصلاحي

محمد سعيد التركي

لا يخفى على عاقل ما آلت إليه الأمة الإسلامية اليوم من حال متدنٍ ومنهار على كافة الأصعدة في الحياة، إبتداء من الأفكار والمفاهيم والمقاييس والقناعات، والعادات والتقاليد والأعراف، والإنهيار الخلقي والتربوي، ومروراً بإنهيار الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والإدارية، ومن فقد الأمن وفقدان الشعور بالأمان، وإنتهاء بفقدان العزة والكرامة، وشيوع الفقر والذل والهوان.

ولا يخفى على عاقل ما تسعى إليه الأمة الإسلامية وهي تبكي على أمجادها، من الخلوص من هذا الواقع المهين، وهي ترى دينها قد انهار، ودنياها قد داسها الأعداء الكفار، وهي ترى أن لا خلوص من ذلك إلا بالعمل والعودة إلى دين الإسلام العظيم، الذي أعز أجدادها وأقام سلطانهم وسوّد ملكهم، هذا الإسلام الذي كان غيابه سبباً لذلهم وهوانهم بين شعوب الأرض اليوم.

بهذه القناعة خرج المسلمون اليوم من عزلتهم، ولكنهم خرجوا لا يعرفون أي باب يطرقون وأي منهج يسلكون ليحتضنهم الإسلام كما احتضن أسلافهم، فمن جهة استيقظ بعضهم وفوّهة المدفعية موجهة على رؤوسهم من دول الاستعمار المجرمين، فما كان منهم إلا أن يحملوا السلاح ويقاتلوا عدوهم.

ومنهم من قام من غفوته وقد كان الكافر المستعمر قد أحكم قبضته على البلاد والعباد ولاذ بالقهقرى، فلم يروا أمامهم إلا جنود السلطان من أبناء جلدتهم، يوجّهون فوّهات بنادقهم على رؤوسهم، فإتباع بمعروف أو قتل بإحسان، فما كان من هؤلاء إلا الاستسلام لواقعهم والقبول بما يُملى عليهم، حتى أورثوا للأجيال التي تليهم كتمان الحقائق، والخوف والذعر من الحاكم وزبانيته.

ومن المسلمين من أصبح بكل رضى تحت إمرة عصبة الأمم (هيأة الأمم المتحدة)، وتحت ولاية أحد دول الاستعمار الإجرامية، وذلك بفضل وبركة بعض ولاة الخلافة العثمانية الذين خانوا الأمانة (كمحمد علي باشا بمصر)، الذين باعوا ولاءهم لهؤلاء المستعمرين، وأعانوهم على إسقاط دولة الخلافة العثمانية (المريضة)، فاقتنعت شعوب هؤلاء بهذه النقلة السلميّة في ظاهرها، الفتاكة بهم في باطنها.

ثم توالى ظهور النهضويين، منهم الحقيقي ومنهم المزور، والنهضويون (رجال النهضة) هؤلاء هم أبناء الأمة الإسلامية الذين حملوا على عاتقهم التحرر من ربقة العبودية للكافر المستعمر، والتحرر من عملائهم الحكام،، لقد واجه هؤلاء عدة مسائل عندما بدأ وعيهم بحال الأمة التي وصفنا ووعيهم بواقعها،، فكانت أهم المسائل التي واجهوها هي قضية المطلب، فقد كان هناك مَن عَلِمَ المطلب الذي يجب أن يسعى إليه ويعمل من أجله، وهناك من لم يعلمْه، وبالتالي تعددت المطالب عند النهضويين واختلفت .

إختلاف المطالب عند هذا وذاك، كان انطلاقاً من عدم دراسة الواقع من جميع جوانبه السياسية دراسة عميقة مستنيرة، ومن جوانبه الفقهية الشرعية، أو قد كان من خلال ردة الفعل المشاعرية المتعجلة للكارثة التي حصلت، أو قد كان من خلال إتباع رأي أحد علماء السلاطين، في أنّ الواقع الحالي هو واقع إسلامي، والحاكم القائم حاكم شرعي، والحياة القائمة حياة إسلامية بشكل تام أو شبه تام، إلا أنها في حاجة "بحد زعمهم" إلى بعض الإصلاحات، كل هذا كان الباعث الحقيقي لنشوء الفكر الإصلاحي .

أما الفريق الآخر من النهضويين، فهم الذين رأوا أن الواقع الحالي هو مغايرٌ تماماً لواقع الحياة الإسلامية وللمطالب الشرعية، ورأوا أن التغيير ضرورة لا حيد عنها ولا مفر، أي أن التغيير الشامل لكل شيء، شيء واجب ولازم ولا مناص منه، بدءاً من الدولة وانتهاء بكل صغيرة في النظام والحياة.

أما النهضويون الذين يرون ويؤمنون بفكرة الإصلاح، يرون أن حكام المسلمين اليوم حكام شرعيون، كون أنهم مسلمون ديانة، وبما حصلوا عليه من الحصانة بوصولهم إلى الحكم، الذي سخره الله جل وعلا لهم وخصهم به "كما يزعمون"، انطلاقاً مِن أن الله يؤتي الملك من يشاء وينزع الملك عمن يشاء، دون أن يفرقوا بين ما هو من عند الله، وبين ما هو من أفعال الإنسان الاختيارية، ودون التمييز بين ما يريده الله من خير لعباده، وبين ما يريده أعداء الله من فساد في الأرض.

أو أن الإصلاحيين هؤلاء رأوا أن شرعية الحكام القائمين اليوم، آتية من كون أنهم استمدوا شرعيتهم من البيعة التي حصلوا عليها رضىً أو قهراً من المسلمين، فيكونون قد أغفلوا أن البيعة الشرعية لا تنعقد أصلاً بهذه الكيفية، إنما البيعة الشرعية تكون لأحدهم للحكم بالإسلام، وليس لعين من بايعوه، فتصبح بالتالي شرعاً بيعة باطلة تورد أصحابها النار، فضلا عن أن البيعة إنما هي في الأصل قوة وسلطان لمن قام بها، فهو الذي يعين حاكمه وهو الذي يحاسبه وهو الذي ينزعه إن خالف ما قامت عليه البيعة، فإن فقد المبايع (الناس) هذه القوة والسلطان، أصبحت البيعة بيعة جبرية قهرية، لا تنفع أهلها، وتَخرج بالتالي عن شروط انعقاد البيعة في الإسلام، التي لا تجعل الدار دار إسلام، كما أريد لها أن تكون، ناهيك عن اعتبارات أخرى كثيرة.

وينطلق الإصلاحيون من كون أن واقع بلاد المسلمين الحالي واقع صحيح، بكل تقسيماته وتمزقاته، وليس في حاجة إلا لشيء من الإصلاح، وقد أنتج هذا التصور منهجاً معيناً في الأخذ بأمور النهضة عند الإصلاحيين، على رأسها النصيحة بإغفال كثير من الحقائق السياسية والتاريخية والوقائع، والقبول بالأمر الواقع، والقبول بالدول الكرتونية القائمة، وافق رأيهم الشارع أم خالفه، والاكتفاء بقليل من العلم الشرعي والفكري والسياسي، ورفض أي فكر يخالف المنهج الإصلاحي، حتى ولو كان شرعياً، تحت أي ذريعة، أدنى هذه الذرائع أن هذه الأفكار أو الأحكام "كما يزعمون"، خاصة المتعلقة بالتغيير، ليس هو الوقت المناسب لها أو للحديث عنها أو للعمل بها.

هذا هو الفكر الإصلاحي، وهو فكرٌ رسمَ منهجاً للتعامل مع واقع المسلمين بصورة محددة، على رأسها إصلاح الواقع بكل أساليب المداراة والملاينة والتحايل على المشاكل، أو بأي أسلوب يُدّعى فيه موافقته للشرع، وهو لا يعتمد على تغيير الأحكام أو تغيير النظام أو تعديله، ويتطلب كثيراً، بل لا يعمل إلا من منطلق الاعتراف بالحاكم القائم، ولذلك كان لا بد في هذا المنهج مهادنة الحكام ومسايرتهم وخَطب ودهم، ومجاراتهم حتى ولو أظهروا كفراً بواحاً، أو أظهروا ولاء للكفار أو لأحكام الكفر أو خضوع لها، كما هو حاصل الآن، أي أنه لا بد لأصحاب هذا المنهج الذي اعترفوا فيه بالحاكم أن يعترفوا فيه كذلك بالأحكام التي يتبعها الحاكم ويخضع لها، الصادرة من هيأة الأمم المتحدة ومجلس الأمن، ومنظمة التجارة العالمية وغيرها من مؤسسات رؤوس الكفر المستعمرين، من أمريكا وأوروبا وروسيا والصين.

أصحاب هذا المنهج الإصلاحي، هم في الحقيقة عميقي الجهل أو متعمقيه، فهم لا يدركون أصلاً معنى الإصلاح والفرق بينه وبين التغيير، بل ولا يدركون الفرق بين الطريقة والأسلوب، وبين الغاية والهدف، فليس لهم طريقة يعملون بها، إنما أعمالهم كلها أساليب، أي أعمال بكيفية متغيرة مع الظروف والأماكن والأزمان، ومع اختلاف الأشخاص والدول، فهم ليس لديهم كيفية ثابتة للقيام بالأعمال، أو أن بعضهم يخلط بين الأسلوب والطريقة، فتجد فعله أصابته حمى الازدواجية، فليس هو بالطاووس، وليس هو بالغراب .

الجهل العميق بالسياسة يسود عقول وأفهام الإصلاحيين ويغشاها، ومن وجهة نظري فإن أكثرهم يستطيع الفهم والإدراك، ولكنه لا يريد أن يفهم أو يعرف شيئاً في السياسة، ولا يريد أن يفهم أو يعرف مسائل أصولية في الشرع، ولذلك تجد الإصلاحيين يقومون بالعمل في إطار قطري معين للبلاد التي ينتمون إليها تجنساً، ولا يُشغلون أنفسهم بأحوال الأمة الإسلامية كأمة واحدة، كما بين أمرها الله سبحانه وتعالى في كتابه وسنة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم وخاصة إن كانوا قد أقاموا على أساس هذا المنهج الإصلاحي جماعات أو حركات حزبية، فالمصيبة ستكون بالتالي كالطامة على الأمة الإسلامية وعلى العمل الإسلامي، وعلى عجلة الدعوة الإسلامية.

يشتغل الإصلاحيون في داخل الأقطار التي ينتمون إليها بمعالجة المشاكل الناتجة أصلا من فساد النظام، فيطفقون يبحثون أو يوجدون حلولاً لهذه المشاكل، ولكن مع الإبقاء على النظام وعلى عدم التعرض له، فهم يتجنبون الإصطدام بالحاكم قدر المستطاع، فعندما يتقدم الإصلاحيون لحل قضية البطالة والفقر التي يعاني منها الناس، والتي أصل منشئها النظام الاقتصادي الرأسمالي القائم، فإنهم يدلسون على أنفسهم وعلى الناس، فيُرجعون أسبابها إلى أن الناس لا تُخرج صدقاتها، ولذلك يجب إنشاء الجمعيات الخيرية، أو العمل في إطارها، والتوسل لكبار رجال الأعمال بالتبرع ببعض الأموال .

ويُرجعون العنوسة وعزوف الشباب عن الزواج إلى غلاء المهور، في الحين أن سببها البطالة وتدهور أحوال المعيشة والفقر، لسيادة النظام الرأسمالي القائم، وبسبب إقصار الزواج من أصحاب الجنسية الواحدة، وغير تلك من الأحكام الجائرة، فيُغفلون هذا ويقومون بتنظيم عمليات قروض للزواج، ومسائل أخرى مشابهة، وهكذا دواليك.

المصالح الشخصية أمر مصيري للإصلاحيين، وهي خط أحمر لأعمالهم وتحركاتهم وأقوالهم وآرائهم، يسير هذا الخط الأحمر جنباً إلى جنب مع رضى الحاكم وسخطه، فالإصلاحيون يعرفون حدودهم تماماً مع الحاكم، والنظام يمثل ثوب الحاكم فلا يدوس عليه أحدهم، وإلا فقد مصالحه .

إلى هنا ونحن نتحدث عن منهج الإصلاحيين الذين يدّعون الإسلام، ويعملون على إنهاض الأمة بالإسلام، أما من لا يدعي الإسلام من الإصلاحيين أو ينافق به، فدعوتهم دائماً دعوة وطنية أو قومية، أو ديمقراطية أو شعبية أو غيره .

الإصلاحيون أصحاب موقع عزيز في قلوب حكام البلاد العربية والإسلامية، بأفرادهم أو جماعاتهم أو كحركات تُسمى إسلامية أو غير إسلامية، فهم الحملان الوديعة، والأسود المنزوعة المخالب والأنياب، وهم الأسفنج التي يمتص غضب الشعوب الذين يقومون بتمييع مطالبهم وتحريف مسارها، وتُبدد آمالهم، وتحول غضبهم على الحاكم رضى وسلام .

الإصلاحيون كما ذكرنا هم من متعمدي الجهل أو متعمدي التجاهل من علماء السوء، أو من العلماء الجاهلين أو المتجاهلين، من الأفراد أو من زعماء الجماعات الإسلامية وغير الإسلامية الإصلاحية، ومن المفكرين العلمانيين أو المتعلمنين، أو هم من الشخصيات التي تبتغي لنفسها شهرة أو وجاهة أو غنى، أو هم من الشخصيات المزروعة في الأمة الإسلامية، والتي تعرضها وتشهرها الدول الاستعمارية في الإعلام، كبدائل عن الحاكم القائم في البلد والقطر الواحد .

المنهج الإصلاحي في واقع المسلمين اليوم عمل باطل شرعاً، وهو مخالف لأصل الإسلام، ومخالف للأحكام الشرعية، وكذا فهو باطل في العمل السياسي النهضوي، وباطل في نهضة الأمم بشكل عام، فهو بمثابة ترقيع الثوب البالي، الذي يزيده سوءاً ويزيد منظره تشويهاً، وهو الروح التي تمد في عمر الواقع الفاسد والفساد والبطلان والتخلف والانحطاط، وما مصائب الأمة الإسلامية اليوم إلا نتيجة لعمل الإصلاحيين، عليمي اللسان المتفيقهين، أو من الأخسرين أعمالاً، الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يُحسنون صنعاً .

يقول الله سبحانه وتعالى في سورة البقرة 8- 12

وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ، يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُم وَمَا يَشْعُرُونَ، فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً وَلَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ، وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ، أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِن لاَّ يَشْعُرُونَ

يقول الله سبحانه وتعالى في سورة النساء 150- 151

إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرِّقُواْ بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَن يَتَّخِذُواْ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً، أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُّهِينًا 

ويقول الله سبحانه وتعالى في سورة الأحزاب 66 – 68 

يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولا، وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا، رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا

ويقول الله سبحانه وتعالى في سورة الأحزاب 70 - 71

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلا سَدِيدًا، يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا.