ثقافة الفساد الأحمر
سيد أمين
اعتدت منذ سنوات طويلة بحكم عملى الذى يقع في منطقة وسط القاهرة ان أسير جيئة وذهابا في واحد من اعرق واقدم شوارعها , بل ان هذا الشارع اقترن تاريخا باشهر مذبحة حدثت فى تاريخ مصر قبل ان تحل مجازر اخري محلها الأن وهى تلك الخاصة بمذابح الحكم العسكرى فى ميدانى الشرف والعز "رابعة" و"النهضة".
هو شارع الدرب الأحمر والذى كان فى الاصل يسمى بالدم الاحمر نسبة الى دماء ضحايا مجزرة القلعة التى قام بها محمد على للتخلص من خصومه المماليك, لكن تم تجميل الاسم ليكون الدرب الاحمر رغم ان اسمه الاصلى قبل المذبحة هو شارع البيبانى.
وبقدر ما كان يستهوينى اثناء سيري بسيارات النقل العام تذكر التاريخ المزدحم بالصراعات والنضالات والخيانات لهذا الشارع , وقيام نابليون بونابرتا بضربه وضرب رملة بولاق بالقنابر من اعلى جبل المقطم لاخماد الثورة الشعبية اثناء الحملة الفرنسية , وكذا اعدام المجاهد الشامى سليمان الحلبي على الخازوق , ومن قبل ذلك نجد السلطان العثمانى سليم الاول يقبض على الحاكم المملوكى قنصوة الغوري ويعدمه بشكل شنيع ويعلقه على باب زويلة , كان يستهوينى ايضا البحث فى تصرفات الناس عسانى اجد شيئا يفسر لى لماذا اكتظ هذا الشارع بكل هذه الصراعات لدرجة تجعله بمثابة معجما لكل تاريخ مصر.
المدهش ان التكوينة السيكولوجية لسكان مثل تلك الشوارع العتيقة التى تكتظ بالتاريخ او بالدماء " كلاهما واحد فتاريخنا جله دماء" والذين عانوا لفترة طويلة اما القهر السياسي والاقتصادى أو سلطة الفتوات واخيرا سلطة البلطجية والشبيحة والحشاشين , انهم صاروا يبررون للقهر ويعتبرونه جزءا من حياتهم الطبيعية وكأنه لكى يعيش الانسان لابد من ان يكون واحدا من اثنين لا ثالث لهما اما جانى يفوح اجراما او مجنى عليه يطفح استكانة وخنوع, وان هذا هو الامر الطبيعى في الحياة , وما عدا ذلك فهو خروج عن التقاليد.
ومن أشد ما لفت انتباهى , وربما انتباه كل من اعتادوا المرور او حتى العيش فى هذا الشارع , تلك التصرفات التى اعتاد ان يقوم بها احد السكان الميسورين اقتصاديا منذ سنوات طويلة لدرجة انه لما كبر ورثها لابنه ايمانا بفائدته على ما يبدو , وهى النفاق.
فحينما كانت القلوب تغلى وتستشيط غضبا قبيل ثورة يناير 2011 الموئودة كان الرجل يملأ هذا الشارع بل والشوارع المحيطة به بيافطات فخمة كتب عليها عبارات من قبيل"شعب مصر العظيم يبايع بكل فخر واعزاز البطل جمال مبارك زعيما للبلاد لاستكمال مسيرة النهضة..مع تحيات الحاج ابو راندا" ويرفق مع اليافطات صورة كبيرة لمبارك في الوسط وعلى اليمين صورة اصغر منها لجمال مبارك وصورة ثالثة اصغر له, وكان يقيم يافطات عملاقة بحجم واجهات البناية الضخمة التى يسكن بها لصورة جمال مبارك وكتب تحتها اخترناك.
وكان المارة لا يلقون لها بالا , حيث اعتادوا على قيام عناصر الحزب الوطنى وهم اهل رشوة وفساد ومحسوبية فضلا عن يد باطشة لا تنصر الا الظالم ولا تظلم الا المظلوم بفعل ذلك , وان كان الكثيرون من الناس يصدقون مثل تلك الدعايات ويعتبرونها حملات مشروعة.
المهم ان الثورة تفجرت " بفعل المخابرات التى كانت ترفض التوريث" وظهر حنق الناس ضد مبارك وسقط بعضا من شهداء الثورة فى الشارع وبدا حكم مبارك أيل للسقوط فراح الرجل ينزع صور مبارك ونجله من الشارع , ولما تنحى الرئيس مبارك فوجئ الجميع بأن الرجل عاد يهنئ اللواء عمر سليمان بنجاح ثورة يناير عبر صور عملاقة للرجل وضعها في ذات الاماكن التى كانت فيها تلكم اليافطات القديمة , وحينما دشنت وسائل الاعلام ان تلك الثورة ثورة للشباب , راح الرجل يتواري للخلف في اليافطات التى ينشرها , وراح يبارك ثورة الشباب ولكن هذه المرة ليس بشخصه بل ظهر ابنه للمرة الاولى فى المشهد بصفته احد الشباب الذين فجروا ثورة يناير.
وبعد مصرع عمر سليمان نشر الرجل صور مبايعة وتأييد لاحمد شفيق ولما أفل بايع من بعده طنطاوى وعنان ولما فاز الدكتور محمد مرسي فلم نجده يتقدم بأية تهنئة له , بل راح يهنئ عمرو موسي ولما اعلن موسي عدم رغبته فى الترشح للرئاسة احتار الرجل اشد حيرة فاتجه الى الهدف مباشرة وراح يهنئ وزير الداخلية , فوزير الداخلية هو الشخص المهم فى اى حكومة بالنسبة لمثل هذا الرجل , الى ان اتته نجدة السماء وحدث انقلاب 3 يوليو 2013 وهنا برز السيسي فى الشاشات وامتلأ شارع الدرب الاحمر حتى الثمالة بيافطات البطل الذى حرر مصر!!!
ما يدهشنى ان بعضا من الناس التى شاهدت الرجل يدافع عن مبارك صدقت انه من ثوار يناير وانه يدافع عن حامى ثورة يناير عبد الفتاح السيسي مدير المخابرات الذى عينه مبارك.
هذا الرجل فى الحقيقة ليس حالة فريدة بل هو ظاهرة جماعية تعيشها بعض المناطق لا سيما فى القاهرة , حيث لا يصبح هناك اى مصدر للمعرفة وتكوين الثقافة والشخصية بل والرأى العام سوى شاشات الفضائيات المسيطرة على السوق الاعلامى فى مصر وهى فى الغالب قرابة 35 فضائية يملكها خمسة رجال اعمال ينتمون للحزب الوطنى واثروا ثراء شديدا من وراء الفساد.
بل الاغرب ان شبكة الفساد فى مصر جعلت بسطاء يدافعون عنه ويعتبرون التطهير امرا ممقوتا , وذلك لان تلك الشبكةتعمل بشكل متسلسل من حيث القوة وعنقودى من حيث الانتشار , فهناك من فسد ويسرق المليارات وهناك من فسد ويسرق جنيها واحدا او حتى رغيف خبز , وكل يدافع عن فساده.