لمصلحة من يستثمر الأردن سياسيا في الميليشيات العراقية؟
بعد أن أعطى الأمريكيون كل فريق طائفي عراقي حصة سياسية بعد الغزو والاحتلال عام 2003. وبعد أن أخذت الطائفية، ولأول مرة، وظيفة في أن تكون جزءا من السياسة. نقل الطائفيون هذه الوظيفة إلى المراقد والمزارات الدينية أيضا، وأصبحت جزءا من البازار السياسي، الذي به يساومون الدول الأخرى في تشكيل العلاقات السياسية والاقتصادية معها.
وقد تم العمل بهذا السلوك السياسي ولأول مرة مع الأردن، حيث كانت المعادلة مع عمّان هي الانفتاح السياسي والاقتصادي، مقابل فتح الأضرحة الدينية الموجودة فيه أمام الزوار الشيعة، عراقيين وإيرانيين، ومع أن الأردن تمنّع كثيرا في القبول بهذه الصيغة، ورفض جعل العلاقات مع العراق قائمة على هذا الأساس، لكن يبدو أن صانع القرار فيه أنجر أخيرا إلى هذه المعادلة، وبادر للانفتاح على الميليشيات الطائفية العراقية، من خلال الزيارة التي قام بها رئيس مجلس النواب الأردني، وعدد من أعضاء المجلس في الأسبوع المنصرم، فإضافة إلى اللقاءات التي تمت مع رئيس الوزراء، ورئيس مجلس النواب، فإن الوفد زار مقرات ومكاتب عدد من الميليشيات العراقية، والتقى زعماءهم، فلمصلحة من جرى ذلك؟
قد يبرر الوفد البرلماني الأردني الزيارات التي حصلت على أن من زاروهم، مُمثلون في البرلمان العراقي، وأن زعماء هذه الميليشيات الذين التقوا بهم هم رؤساء كتل برلمانية وهذا صحيح، لكن يقينا أن الأردن هو الدولة العربية الأكثر فهما للواقع العراقي من غيرها، فهل من المعقول أن صانع القرار السياسي الأردني، لا يعرف أن هذه الجماعات ليست كتلا سياسية حقيقية؟ أليسوا هم من يعترفون علنا بامتلاكهم الصواريخ والمُسيّرات والأسلحة الثقيلة والمتوسطة، وأن الأردن كان هدفا لهم بالمسيّرات، كما ألمح إلى ذلك العاهل الأردني في زيارته الأخيرة إلى واشنطن؟ إذن عندما تكون هذه الحقائق جميعها على طاولة الوفد البرلماني الأردني، فمن حق الشعب العراقي أن يسأل عن الهدف من وراء اللقاءات التي تمت مع زعماء هذه الميليشيات؟ وإذا كان هنالك من الأشقاء الأردنيين من يقول بضرورة التعامل بالواقعية السياسية، وإن احتواء هذه القوى يأتي من خلال تطبيع العلاقات معها، وإن إمكانية تغيير سلوكها يتأتى من إشراكها في السياسات البينية العراقية ـ العربية، وحجز حصص اقتصادية لها في المشاريع المشتركة، فهذه كلها مبررات لا معنى لها، ولا يمكن أن تشكل سلوكا سياسيا جديدا في عقل هذه المجاميع المسلحة، لأنها قوى طاردة للدولة، ولا تؤمن بأن العراق دولة. وهي مجرد أذرع مسلحة تابعة لإيران، التي سعت لإدخالها ضمن المنظومة السياسية كي تأخذ شرعية حكومية لها. ومن خلال هذه الشرعية تستطيع التحكم بالعلاقات العراقية مع المحيط العربي خصوصا، ولهذا السبب كانت المهمة المنوطة بها هو تعطيل كل فرص التعاون مع الدول العربية، كما عطلت وعلى مدى سنوات الاتفاقيات العراقية مع الأردن نفسه، بهدف ابتزازه وجره وباقي الدول العربية لإقامة علاقات مع طهران، ولتسهيل تمرير الأجندة الطائفية الإيرانية في البلدان العربية.
إن تأكيد رئيس مجلس النواب الأردني على أن الأردن يقف على مسافة واحدة من جميع التيارات السياسية في العراق يستحق الاحترام، وإن قوله بأن الملك يؤمن بأن عراقا موحدا آمنا مستقرا يشكل قوة لإشقائه العرب يوجب التصفيق، لكن من التقاهم هم مجموعة ميليشيات مسلحة، يمثلون إرادات خارجية، كما أنك لو سألت أي أحد منهم عن تعريفه للعراق لما أجابك، لأنهم يؤمنون بأن العراق جزء من ولاية الفقيه، أي أن الجغرافيا والأيديولوجيا وكل التفاصيل يختلف فيها إيمانهم عن كل العراقيين، وأن كل ممارساتهم اليومية تصب في خلق عراق غير مستقر كي يبقى دولة هشة، لأن قوته تأكل من قوتهم ومصالح حواضنهم في طهران. كما أن على دول الجوار العربي أن لا تتعامل مع العراق وفق المنظومة الطائفية التي أنشأها المحتل، فإذا كانوا يؤمنون حقا بوجود «برلمان عراقي» يمثل العراقيين فعلام الذهاب إلى مقرات ومكاتب ليست تابعة للبرلمان؟ صحيح أن التواصل مع العراق بمختلف ألوانه وتعبيراته ضرورة، لكن عندما يكون التواصل تحت تسميات «فريق سني وفريق شيعي وفريق كردي» يصبح هنالك تناقض بين الأقول والأفعال، إضافة إلى أن الوفد لم يكن جاهلا بثورة تشرين التي رفضت كل هذه التسميات، وأعادت الهوية الوطنية إلى موقعها الحقيقي كراية واحدة لشعب واحد، لذا يبدو أن الوفد البرلماني الأردني حاول أن يصنع فضيلة للعراقيين بدافع الضرورة، مدعيا أنه يريد التواصل مع الجميع في العراق. إن إعادة تأهيل العلاقات العربية مع العراق يجب أن لا تعني بأي حال من الأحوال القفز على الحقائق وطمر جرائم الميليشيات، وشرعنة وجودها في المشهد، من أجل مصالح تجارية أو سياسية، فالخسائر عندما نحاول قلب هذه الصفحة لن تكون وقتية بأي حال من الأحوال، بل ستكون كارثية على منظومة الأمن القومي العربي على المدى القريب والبعيد. يقول كيسنجر «إن السياسة الصحيحة والشؤون الخارجية يجب أن تكون حول ما سيأتي بعد ذلك وليس حول الحاضر». كما إن رجل الدولة هو الذي لديه غريزة المستقبل، ويرى طريقا للوصول إليه بأمان، فكيف يمكن المساهمة في بناء علاقات عربية مستقرة مع العراق، ما لم يكن العرب قد شكلوا تصورا لها قبل الشروع في ذلك؟ ويبدو واضحا من خلال زيارة الوفد الأردني الأخيرة أن هذا التصور لم يتشكل بعد، حيث جرى الاهتمام بالجغرافية الطائفية والإثنية أكثر من أي شيء آخر.
إن الأردن الذي حذّر مُبكرا من الهلال السياسي الشيعي، وحاول عدم الانفتاح على قوى هذا الهلال، يبدو أن هنالك عوامل قد دفعته للعودة عن هذه السياسة. فالحالة الاقتصادية ازدادت سوءا من جراء الوباء الذي ضرب الاقتصاد العالمي. كما أن التهديد الأمني من قبل الميليشيات المقبل من محيط درعا الجنوبي في سوريا، رفع من مستوى الحذر في الداخل الأردني، إضافة إلى الاضطراب السياسي الذي حصل مؤخرا بسبب ما سمي «الفتنة». هذه العوامل وغيرها دفعت صانع القرار الأردني إلى إعادة قراءة المشهد الإقليمي، ومراجعة السياسات الخارجية، ومنها الانفتاح على الأذرع الإيرانية في العراق وهذا حقه السيادي. لكن ذلك ينبغي أن لا يخرق جميع القواعد المعتادة، بتوقع حصول الأحسن، لأن التوقعات في السياسة لا تعطي دائما أملا بحصول حمل حقيقي، بل في كثير من الأحيان يكون الحمل كاذباً. كما أن السياسة هي رياضة اتصال حرفي مع معسكرك وليست رياضة اتصال مع خصمك فقط.
ما يأمله شعب العراق أن لا يكون الأردن الشقيق ملحقاً طوعا أو قسرا بالمشروع الإيراني، الذي يلعب بمستقبل العراق السياسي والاجتماعي والاقتصادي والأمني. ويجب أن يفهم العرب أن العراق اليوم دولة وليس دولة، حكومة لا تحكم. دستور ملغوم. وميليشيات هي القوة الأولى التي تنتمي إلى الدولة لكن مشروعها إقليمي في العراق، ووسيلة لاستراتيجية إيران الكبرى، فإن خسرت خسر العراق معها، وإن ربحت ربحت هي وأذرعها فقط، لذا فالمسؤولية أمام العرب اتجاه العراق، كبيرة.
وسوم: العدد 946