لا للحرب الأهلية: هل دخل لبنان في البربرية؟
في الماضي كتب كارل ماركس داعياً البشرية إلى الاختيار بين الاشتراكية والبربرية، ومع انتصار النيوليبرالية يبدو العالم بأسره ذاهباً إلى فاشية جديدة تتخذ أشكالاً مختلفة قاسمها المشترك هو التخلي عن كل القيم الإنسانية.
أما في لبنان، فإن منزلق البربرية الذي تشكل بعد نجاح نظام المافيا واللصوص في خنق انتفاضة 17 تشرين، يتخذ شكل حروب أهلية صغيرة ومتنقلة، وسط اختناق اقتصادي وفقر مدقع هما ذروة الهندسات المالية التي برع حاكم مصرف لبنان في تركيبها.
على لبنان أن يختار بين العلمانية والبربرية، بين منطق الدولة الذي يقوم حراس النظام بهدمه، ومنطق الميليشيات الطائفية والعصبيات القبلية.
وصلنا إلى القعر.
فمع مقتلة الطيونة التي سمحت للمكبوت الطائفي بالانفلات، على إيقاع هتافات طائفية ورصاص ميليشيوي، تتم عملية انقلابية كاملة، هدفها إخراج الشعب كوحدة اجتماعية تنتفض ضد طبقة اللصوص من المعادلة، كي تحتل الطوائف والقبائل الأمكنة كلها، وتأخذ لبنان إلى مقبرة التاريخ.
لم يكن أمام النظام من خيار آخر في مواجهة قاض شريف اسمه طارق البيطار تمسك باستقلالية القضاء وبمنطق الدولة، سوى إغراق مهمته في وحول الطوائف الهمجية، التي اعتادت على استباحة دولة تحكمها.
النقاش اللبناني يتخذ اليوم شكلاً غرائبياً، فالسؤال ليس فقط من بدأ النزاع ومن أطلق النار في الطيونة، بل هو أساساً من أين أتى هذا التدفق الميلشيوي المدجج بكافة أنواع الأسلحة.
شعرنا أننا عدنا إلى عام 1975، الأسلحة في الطرق، وقذائف الآر بي جي7 تتصادى مع الرصاص.
ما هذا؟
هل نحن أمام هاوية احتمالات حرب أهلية عبثية تدمر ما تبقى، في صراع الهمجيات الإقليمية.
أحداث الطيونة أشارت بوضوح إلى وجود لبنانين:
لبنان المجتمع الذي توحد وانتفض من أجل الدفاع عن منطق الدولة والعدالة، ورفع شعارات مدنية وعلمانية مطالباً بإسقاط النظام.
ولبنان الطوائف والقبائل الهمجية التابعة والمستتبعة من قوى إقليمية لا ترى في لبنان سوى ساحة مفتوحة لصراعاتها.
إنه صراع الهمجيات والقوى الاستبدادية التي وجدت في قبائل لبنان وزعاماتها الطائفية حاضنة للدمار.
ماذا يجري؟
بدا المشهد غامضاً في البداية، فقراءة الاشتباك المسلح في الطيونة بدت عصية على الفهم.
لكن سرعان ما بدأت اللعبة تتكشف، من تعطيل الحكومة وشلها، إلى زيارة السفير السعودي لسمير جعجع في معراب، قبل أن تعلن السعودية قطع علاقاتها بلبنان.
في مواجهة سلاح حزب الله هناك سلاح القوات، والسلاحان صارا جزءاً من الحرب الإقليمية.
وأتت تصريحات القرداحي الذي قفز من شاشات الترفيه إلى وزارة الإعلام اللبنانية لتشكل الذريعة التي كان الجميع يسعى إليها. لم يلتفت أحد إلى الصلافة المرتبكة التي أعلن فيها المذيع الوسيم إعجابه بجرائم بشار الأسد ودعوته إلى انقلاب عسكري في لبنان وتأييده المبطن لاتفاقيات إبراهام وتجاهله لمذبحة رابعة، بل توقفوا عند تصريحه اليمني، وهو الجزء العقلاني الوحيد من مقابلته، فأصيب الجميع بالهستيريا.
مسكين القرداحي، لن يبقى منه في الذاكرة سوى أنه كان ذريعة العقوبات الخليجية التي تمهد الطريق لحرب نهاية لبنان واندثاره.
هل ستندلع الحرب؟
هل يعلم قادة السلاح والمسلحين وحلفاؤهم من اللصوص إلى أين يمضون بهذا الوطن الصغير الذي استباحوا كل شيء فيه؟
هل انتهى المنطق وماتت المعاني، بحيث يعلو صوت الهمجيات على كل صوت آخر، ويؤخذ الشعب اللبناني رهينة للحماقة وهستيريا صراع الأصوليات المقنعة بالشعارات الوطنية وما يشبهها؟
هذه هي الأسئلة التي على المجتمع اللبناني، أي على الوعي الذي بلورته انتفاضة 17 تشرين، الإجابة عليها؟
المنعطف الذي بدأ مع إصرار الطغمة الحاكمة على تحطيم القضاء وحجب حقائق انفجار المرفأ، تحول اليوم إلى منزلق يأخذنا إلى الفراغ والدم. كما أن ردود الفعل السريعة (التي تبدو وكأنها كانت جاهزة ولا تنتظر سوى الذريعة) على تصريحات قرداحي جعلت الحكومة بحكم الميتة سريرياً.
هل نستطيع مقاومة الحرب؟ وكيف؟
الانتخابات ليست هي المدخل، فالطبقة الحاكمة تعتبر الانتخابات مجرد متراس أضافي لحروب القبائل. حتى لو جرت الانتخابات، وهذا أمر بات مشكوكاً فيه، وحتى لو فازت منصات «المجتمع المدني» التي يتجمع فيها أغنياء وأحزاب وسياسيون يمينيون إصلاحيون، ببعض المقاعد، فإن هذا لن يغير طبيعة المشهد.
الحرب الزاحفة تُواجَه بوعي جديد، وبمقاومة يصنعها المجتمع من خلال نقاباته ونضال الطلبة، وإصرار المثقفات والمثقفين على الدفاع عن المعاني والقيم الإنسانية.
هذه هي معركتنا.
الحرب الإقليمية المشتعلة هي عنوان انحطاط العالم العربي، واستسلامه أمام المعادلة الوحشية التي صنعتها العروش والجيوش.
هناك يقاوم الشعب السوداني الجيوش المرتهنة للعروش ولحليفها الإسرائيلي.
وهنا في لبنان، لا خيار أمامنا سوى مقاومة الحرب الأهلية بزعامات طوائفها ومافياتها ولصوصها.
مقاومة الحرب هي معركتنا، ولا خيار لنا.
وسوم: العدد 953