بشار من الخندق الإيراني إلى العربي… أحلام وردية
«الأحلام الوردية ليست سوى فقاعات صابون نصنعها بأنفسنا، جميلة، لطيفة، تعكس ألوانًا شتى، لكنها لا تلبث أن تتلاشى لتصطدم مرة أخرى بالواقع».
استوقفتني تلك العبارة للروائي عبد الوهاب الرفاعي في روايته «في الجانب المظلم» لا لعمق معناها فحسب، وإنما لأنها ربما تتناسب كثيرا مع الأحلام الوردية، التي ظللت خيال الحكومات العربية المهرولة نحو التطبيع مع بشار الأسد، والتي تعتمد على طي صفحات الماضي الأسود للرجل، وضم هذا النظام الدموي إلى الحاضنة العربية لمواجهة النفوذ الإيراني.
جاء لقاء وزير الخارجية الإماراتي عبد الله بن زايد وبشار الأسد في دمشق، كخطوة بارزة على طريق تطبيع العلاقات العربية مع النظام السوري، سبقتها خطوات أخرى كثيرة متتابعة في التقارب مع ذلك النظام، من قبل العديد من الدول العربية كالإمارات والبحرين وعمان ومصر والأردن والسعودية والعراق ولبنان، بما يعني أن جرائم الأسد ليست كافية لإبعاده عن السلطة، وأن الدول العربية باتت تنظر إلى بقائه فيها على أنه أمر واقع لابد من التعامل معه.
وتأسيسا على القيمة المنشودة للقاء ابن زايد وبشار، أعرب الأكاديمي الإماراتي عبدالخالق عبدالله عن أحد أحلامه الوردية في تخلي بشار الأسد عن رئته الإيرانية، والتخندق مع الدول العربية، إذ قال في تغريدة له: «أول نتائج زيارة وزير خارجية الإمارات إلى دمشق، قرار سوري بطرد جواد غفاري قائد الحرس الثوري الإيراني في سوريا، وإنهاء وجوده واعتباره شخصا غير مرغوب به، والقادم أهم». وهكذا اعتبر الأكاديمي الإماراتي أن طرد قائد فيلق القدس التابع للحرس الثوري الإيراني في سوريا، دليل على تحقيق ما يحلم به، وأنه إيذان بخلع بشار الأسد العباءة الإيرانية. أحد المعلقين على تغريدة الأكاديمي الإماراتي، زاوج بين الوعي وخفة الظل فقال: «هذا المستوى من الاستخفاف بعقول الناس لم يسبقك به أحد من الخلق، سعادة الدكتور، حتى مواليد 2020 يدركون أن بشار الأسد لا يستطيع الذهاب إلى الحمام من دون إذن مسبق من الحرس الثوري الإيراني».
يذكر الجاحظ في كتاب «الحيوان» أن العامة تتشاءم من الغراب إذا صاح صيحة واحدة، فإذا ثنّى (أي صاح مرتين) تفاءلت به، على طريقة وضع الحتميات الواهنة غير المترابطة هذه، سار عبدالخالق عبدالله، وجعل من طرد جواد غفاري من سوريا، دليلا دامغا على بلوغ الهدف من التطبيع مع النظام. كان على الأكاديمي الإماراتي ألا يفرط في تفاؤله وأحلامه الوردية، وذلك لعدة أمور:
أولا: إن الحرس الثوري الإيراني قام بتنحية غفاري عن قيادة فيلق القدس، لكنه عهد بقيادته إلى علي عاصف القائد في ميلشيات حزب الله اللبناني التابع لإيران، بمعنى أن إيران استبدلت رجلها بآخر، لم يتغير شيء إذن، فعداء دول الخليج مع حزب الله فرع عن الأصل، وهو العداء مع إيران.
خروج بشار الأسد من المظلة الإيرانية أمر بعيد جدا، فالعلاقة بين الطرفين علاقة وجودية، إيران هي رئة بشار الأسد
ثانيا: تنحية جواد غفاري عن قيادة فيلق القدس في سوريا تأتي في سياق دخول النفوذ الإيراني في سوريا مرحلة جديدة، بدأت منذ منتصف هذا العام بافتتاح القنصلية الإيرانية في حلب لضمان ترسيخ وجود إيران في ثاني أكبر المدن السورية، وتكثيف الأنشطة الدعوية والتجارية والثقافية لإيران داخل سوريا، بدلا من التركيز على العنصر العسكري. وفيما يعتبر تأكيدا لهذه المرحلة، وفي الوقت نفسه ردا على أصحاب الأحلام الوردية، الذين تكهنوا بالتوتر بين نظام الأسد وإيران، اتفق الطرفان على استئناف السياحة الدينية بين البلدين، حيث وقّع رئيس منظمة الحج والزيارة الإيرانية علي رضا رشيديان الجمعة الماضية، خلال زيارته دمشق، اتفاقية خاصة بالسياحة الدينية مع وزير السياحة في نظام الأسد، محمد رامي مارتيني، الذي أعرب بدوره عن رغبة حكومته في تسيير سريع لهذه الرحلات، لافتا إلى أن وزارته شجعت مكاتب السياحة السورية، للتخطيط لاستقبال السياح الإيرانيين، إضافة إلى الحج الذي سيكون من ضمنه جانب ترفيهي للعائلات.
ثالثا: سحب إيران غفاري هو أمر طبيعي لأن مهمته في تأسيس جيش كبير من الميليشيات الموالية لإيران في سوريا قد انتهت، خاصة أن إيران لا تريد المجازفة بالشخصيات الكبيرة أمثال غفاري، الذي يشكل بقاؤه في سوريا خطرا عليه، حتى لا يلحق بقائده قاسم سليماني.
خروج بشار الأسد من المظلة الإيرانية أمر بعيد جدا، فالعلاقة بين الطرفين علاقة وجودية، إيران هي رئة بشار الأسد، وهي المسؤول الأول عن بقائه في السلطة إلى يومنا هذا، تقدم له كل أشكال الدعم اللوجستي والعسكري، إيران تقاتل بجيشها من الحرس الثوري داخل سوريا، وتجيّش الميليشيات الشيعية التابعة لها من عدة بقاع على مبدأ ولاية الفقيه، فبشار الأسد ليس مجرد حليف لإيران، لكنه جزء من مشروعها القومي التوسعي. الأسد لن يتخندق ضد إيران وهي التي نجحت في بناء أسس راسخة لنفوذها الاقتصادي والعسكري والاجتماعي في سوريا، وشنت حملات ممنهجة فعالة قوية في تغيير التركيبة السكانية، لصالح الشرائح الاجتماعية الموالية لها، فكيف يتسنى لبشار الخروج من عباءتها؟ سحب قائد فيلق القدس من سوريا جاء بتنسيق بين النظامين السوري والإيراني، انطلاقا من تفهم إيران ضرورة استيعاب المتغيرات التي تطرأ على سياسة النظام السوري، الذي يفرض واجب الوقت عليه التنسيق مع الدول العربية لاستعادة شرعيته وترسيخ سلطته على سائر الأراضي السورية، كما أنه يدرك التحديات الاقتصادية الهائلة التي يواجهها، بعد انتهاء الحرب والانتقال إلى مرحلة الإعمار، وهو ما يتطلب دعم الدول العربية والخليجية، خاصة أن تقارير الأمم المتحدة أشارت إلى أن تكلفة الإعمار تقترب من 400 مليار دولار.
إذن بشار لا يستطيع التخلي عن إيران، وبحاجة في الوقت نفسه إلى دعم الدول العربية، لذلك لا أتوقع لمسار علاقاته بالدول العربية وإيران أن يتسم بالحسم، وسوف يبقي التطلعات العربية باستيعابه وتسليكه من النفوذ الإيراني في طور الأمنيات والأحلام، يغذيها بفاعليات متتابعة للتقارب مع تلك الدول، والله غالب على أمره لكن أكثر الناس لا يعلمون.
وسوم: العدد 955