من السيئات الشائعة في علاقات الدول العربية أنها إذا اختلفت في قضية انتقمت من موطني بعضها بعضا ، وجعلتهم ضحايا اختلافها . ويحدث هذا عادة من جانب الدول التي يعمل فيها مواطنون من دول أخرى . وركزت أزمة قرداحي الأخيرة التي افتعلها النظام السعودي وشاركته فيها الإمارات والبحرين والكويت الضوء ساطعا على هذه السيئة العربية . فهددت الدول الأربع بطرد العمالة اللبنانية إن لم تُقِل الحكومية اللبنانية قرداحي من وزارة الإعلام عقابا له ، في الظاهر ، على وصفه حرب السنوات السبع التي يقودها النظام السعودي في اليمن بالعبثية ، أي التي لا فائدة منها ، وخسائرها بلا حد ولا عد ، ولا تلمع أي شعاعة أمل في انتهاء قريب لها . وعندما قتلت مجموعة فلسطينية في قبرص وزير الثقافة المصرية يوسف السباعي ألغت مصر كل الخدمات التعليمية والصحية التي كانت تقدمها لأبناء غزة المقيمين في أراضيها. وطردت الكويت مئات آلاف الفلسطينيين عقابا لهم على موقف ياسر عرفات الذي أيد في البداية الغزو العراقي لها . واتخذ النظام السعودي بدوره قرارا بطرد العاملين الفلسطينيين ، ويقال إن أميركا تداركت الأمر ، وعطلت تنفيذ القرار . وسبب تداركه وتعطيل تنفيذه أن عددا كبيرا من هؤلاء العاملين من أبناء غزة والضفة ، وعودتهم إليهما ستخلق عبئا اقتصاديا وأمنيا على إسرائيل ، وهو ما لا تريده أميركا لها . واختلف معمر القذافي مرة مع تونس ، فطرد العمالة التونسية . وطرد أبناء غزة والضفة عقابا لهم على اتفاق أوسلو ، وقال لهم : " اذهبوا واعملوا في دولتكم ! " . وشاهد العالم مأساة المطرودين على الحدود الليبية المصرية ، وكلهم تقريبا من الغزيين الراغبين في عبور الأراضي المصرية إلى غزة . ومن طرائف هذه المأساة أن معمر علم أن أحد المطرودين مدرس من غزة سبق أن علمه ، فأوقف طرده . الدولة العربية الوحيدة التي تمردت على هذه السيئة العربية الشائعة هي قطر . لم تطرد العمالة المصرية المقدرة بربع مليون حين انجرفت مصر لمقاطعتها تضامنا مع النظام السعودي والإمارات والبحرين . وها هي الدول الأربع ، ولو بصور متفاوتة ، قد أعادت العلاقات معها ، ففازت ، قطر، بالحسنيين . ما تفعله الدول العربية مع مواطني بعضها بعضا عند اختلافها لا تفعله الدول الناضجة ذات القوانين الواضحة الحاسمة في بيان حقوق العاملين لديها أيا كانت جنسيتهم . فهؤلاء العاملون ، ومنهم العاملون في الدول العربية ، يعملون بعقود فردية لا علاقة لهم بدولهم . فما مسوغ الزج بهم في خلافات لا دور لهم فيها ؟! واستثناؤهم من توابع هذه الخلافات مفيد للدولة التي يعملون فيها مثلما هومفيد لهم ، وعندما تبقي عليهم فإنها تكسب ودهم واحترامهم . ومنبع هذه السيئة الشائعة في العالم العربي الافتقار إلى قوانين واضحة تصون حقوق العامل الوافد ، وتحميه من الطرد التعسفي المفاجىء الذي لم يكن سببا له . ومنبع آخر لها هو أن الدول العربية لا تحترم كرامة وإنسانية مواطنيها ذاتهم ، واستطرادا لا تحترم كرامة وإنسانية مواطني الدول لعربية الأخرى . ولن تزول آلية الانتقام من المواطنين العرب العاملين في دول عربية أخرى إلا إذا تحددت قوانين حقوقهم ، واحترمت الدول العربية كرامة وإنسانية الفرد أيا تكن هويته . والشائع المشهور أن الدول العربية التي تعاقب المواطنين العرب إذا اختلفت مع دولتهم لا تفعل ذات الشيء مع الدول الأجنبية خاصة الغربية . هذه الدول لها وسائلها لانتزاع حقوق مواطنيها العاملين في الدول العربية ،وتعلم الدول العربية أنه لا فائدة لها من المس بحقوق هؤلاء العاملين المحميين من دولهم .وعادة ما يمتن بعض الخليجيين إذا ما غضبوا على أحد مواطني الدول العربية الذين عملوا عندهم بأن " لحم كتافه من خيرهم " ، ولا مبرر واقعيا أو أخلاقيا لهذا الامتنان لكون العلاقة بين الطرفين تبادل خدمات لا فضل لأحدهما فيه على الآخر ، وربما تكون استفادة الدولة من العامل الوافد أيا كانت مهنته أكبر من استفادته منها لإسهامه في تنميتها البشرية وفي اقتصادها في مختلف مجالاته إسهاما يهيء لاعتمادها تاليا على مواطنيها . والعلاقة بين الطرفين يوجزها إيجازا كاملا واضحا قول شاعر : " والناس للناس من بدو وحاضرة = بعض لبعض وإن لم يشعروا خدم " . فكيف إذا كان هؤلاء الناس من أمة واحدة ؟! تبادل الأعمال والخدمات بين الدول العربية من خلال مواطنيها هو التكامل في أعلى كيفياته ، وهو ما يجب المحافظة عليه واستبعاده من تقلبات السياسة بين هذه الدول ، ويبدو أن بيننا وبين شروط هذه المحافظة وهذا الاستبعاد بونا واسعا .