دعوة التسامح الديني بين التدليس والتأسيس

يقول المستشرق الفرنسي جوزيف توسان رينو: «إن المسلمين في مدن الأندلس كانوا يعاملون النصارى بالحسنى، كما أن النصارى كانوا يراعون شعور المسلمين فيختنون أولادهم ولا يأكلون لحم الخنزير».

ويقول المفكر الأمريكي درابر: «إن المسلمين الأولين في زمن الخلفاء لم يقتصروا في معاملة أهل العلم من النصارى النسطوريين ومن اليهود على مجرد الاحترام، بل فوضوا إليهم كثيراً من الأعمال الجسام ورقوهم إلى مناصب الدولة، حتى أن هارون الرشيد وضع جميع المدارس تحت مراقبة حنا بن ماسويه، ولم يكن ينظر إلى البلد الذي عاش فيه العالم، ولا إلى الدين الذي ولد فيه، بل لم يكن ينظر إلا إلى مكانته من العلم والمعرفة».

هذه الشهادة الغربية بالتسامح الديني في الحضارة الإسلامية، تتعلق بعهود كان أصحاب كل شريعة فيها يؤمنون بعقائدهم وتصوراتهم الدينية، ويرون أن المخالف لهم على غير الحق والهدى، ومع ذلك كانوا يتعاملون بالحسنى مع الآخرين، لأن التسامح الديني لا علاقة له بالعقائد والتصورات، وإنما ينصب على السلوكيات والأفعال.

دعونا نناقش هذه القضية بوضوح وصراحة رغم أن البعض يعتبرها شائكة، فذلك أفضل وأجدى من التدليس الذي انتشر في هذه الآونة، التي شهدت نبرة، أو إن شئت فقل نعرة، تخالف المنطق والمعقول والمألوف، وتربط بين التسامح الديني والاعتراف بصحة منهج المخالف، فإما أن يشهد للمخالف بالإيمان والحق، وإما أن يُعتبر من المتشددين الذين يفسدون في الأرض ويفككون اللُحمة المجتمعية ويفرقون بين أبناء الوطن الواحد. إن هذه الدعوة لا يقبلها أي من أتباع الملل المختلفة، لأن كلا منه له عقيدته وتصوراته الخاصة، تميزه عن غيره، ويؤمن أتباعها بأنهم على المنهج الحق، وأن غيرهم على المنهج الباطل، وإلا فلم يعضّ كل منهم على عقيدته بالنواجذ؟ لماذا صمد مسيحيو مصر أمام بطش الكنيسة الرومانية ولم يغيروا مذهبهم، رغم أنهم تابعون جميعا للمسيحية؟ ولماذا يؤثر المسلم الافريقي خاوي البطن أن يظل على جوعه ولا يترك إسلامه بإغراءات الطعام والمال؟ لأن كلا منهم يؤمن بأنه على الحق وغيره على المنهج الباطل. إذا سألت عالما مسلما عن غير المسلمين سيقول: «هم كفار، وعقائدهم فاسدة باطلة» وإن سألت قسا أو راهبا عن غير المسيحيين سيقول: «هم كفار لا يدخلون الملكوت» وهكذا إن سألت صاحب أي ملة أو عقيدة، سيكرر الكلام نفسه، فهل يعني هذا أنهم ضد التسامح الديني؟ بعض المشايخ والدعاة، يضعون حتمية لإيجاد التسامح الديني باعتراف المسلم بأن غيره من أهل الملل الأخرى على الإيمان والحق، وينكرون على من يقول خلاف ذلك، لأن هؤلاء يفسدون ولا يصلحون، لقد حسم القرآن ذلك الأمر عندما قال (لا إكراه في الدين) (لكم دينكم ولي دين) فهو يريد المجتمع الواضح الذي لا نفاق فيه، ودعا إلى تسامح المسلم مع غيره من أصحاب الشرائع «لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم» على الرغم من أنه لا يشهد لهم بصحة العقائد والتصورات. وهذا يعد تأسيسا لحقيقة التسامح الديني الذي ينبغي أن يكون واضحا بهذه الصورة على مر العصور، الاختلاف في العقيدة ليس قرينًا للتشدد وليسا مضادا للتسامح.

صورة التسامح الديني، أن أعتز بمنظومتي العقدية التي أعتقد صحتها وأعتقد خطأ مخالفتها، وفي الوقت نفسه، أحسن إلى جاري المسيحي أو اليهودي، وأخالقه بالأخلاق الحسنة، وألا أظلم أيا منهم في خصومه، هذا هو الإسلام الذي جاء، وهذا هو الإسلام الذي صنع حضارة فريدة، وهذا هو الإسلام الذي ينبغي أن يكون. هناك من المسيحيين من يوزع التمر على المسلمين الصائمين، ويمتنع عن الأكل في نهار رمضان صيانة لمشاعر جيرانه المسلمين، وهو يعتقد أنه على الحق، وأن المسلمين على اعتقادات وتصورات باطلة، فهل يلزم حتى نصفه بالتسامح أن يقر للمسلم بأن عقيدته صحيحة؟ لا يقول هذا إلا جاهل أو ضيق الأفق. وإبان ثورات الربيع العربي، كان المسلمون يقون على أبواب الكنائس وتحت أسوارها لحمايتها، وهم يعتقدون أنهم أصحاب العقيدة السليمة، وأن غيرهم على باطل، فهل يلزم حتى نصفهم بالتسامح الديني أن يقروا لمخالفيهم بصحة الاعتقاد؟ لا يقول هذا إلا جاهل أو ضيق الأفق. وبعض هؤلاء الدعاة الذين يستحقون وصف الجهل والجهالة، يذهبون إلى أبعد من ذلك، ويدعون بأن عدم إطلاق وصف الإيمان على هؤلاء المخالفين يكون ذريعة لإراقة الدماء، وهذا تجهيل واضح للأمة على اختلاف مللها وشرائعها، ذلك لأنه ليس هناك في الإسلام شيء اسمه القتل على الديانة، وقد عاش النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة مع اليهود، ووضع أسسا فريدة لما يعرف اليوم بالمواطنة، ووثيقة العهد خير شاهد، والتي نصت على النصرة بين المسلمين واليهود، وإنما أجلى بعض اليهود من المدينة نتيجة الغدر والتآمر على الدولة الإسلامية وقائدها صلى الله عليه وسلم. الإسلام جعل الدماء معصومة، ولا تراق بسبب الاختلاف في العقيدة، وإنما بسبب الظلم والعدوان، حتى إن وقع من مسلم، فقد جعلت الشريعة القتل إحدى عقوبات قطاع الطرق المفسدين في الأرض، ولو كانوا مسلمين، فلا تلازم بين الاختلاف في العقيدة والدماء كما يصور بعض الجّهال. الحساب على اختلاف العقيدة ليس محله الدنيا، وليس أمره إلى البشر، ففي الدنيا يلتقي الجميع على اختلاف شرائعهم على قيم الإحسان وكف الأذى والمعاملة الطيبة والتلاحم لرفعة الوطن ونهضته، وكلهم يقفون أمام العدالة سواسية، لا يفرق بينهم في الحكم على أساس الدين. تلك هي صورة التسامح التي ينبغي أن يؤسس لها هؤلاء الدعاة، وأقول (يؤسس) على سبيل التقريب، وإلا فإن هذه الصورة قد رسّخها الإسلام وأسس لها منذ بزوغ فجره.

دعوا الناس وشأنهم، لا نريد أن نعيش في مجتمعات ينافق بعضها بعضا، دعوا عقائد الناس وتصوراتهم، وركّزوا على السلوك والتعامل بين أبناء المجتمع الواحد بالحسنى والأخلاق الطيبة، هذا ما تكون به رفعة الأوطان حقا، والله غالب على أمره لكن أكثر الناس لا يعلمون.

وسوم: العدد 978