مراسيم العفو الأسدية: عندما يعفو القاتل عن القتيل
جاء ما أطلق عليه بـ«العفو العام» الذي أصدره رأس النظام السوري عن السوريين المتهمين بقضايا الإرهاب، بعد مرور أيام فقط على مجزرة التضامن التي نفذها الطائفي الفاشي المسعور أمجد يوسف ضابط الأمن النموذجي في المخابرات السورية. ونظراً لبشاعة المجزرة ظن كثيرون أن العفو الذي أصدره المدعو بشار جاء للتغطية على المجزرة الرهيبة التي هزت الرأي العام داخلياً وخارجياً بنفس القدر الذي هزت به أيضاً أجهزة الأمن السورية، ليس لبشاعتها طبعاً، بل لأن أمجد يوسف (الكر) حسب وصف المخابرات السورية كان يجب أن يقترف جريمته النكراء دون تصوير. بعبارة أخرى، فإن أجهزة الأمن الأسدية لم تنزعج من وحشية المنظر، بل فقط لأن الجاني وثق جريمته بالصوت والصورة، وكشف دون أن يدري الطريقة الرهيبة التي من المرجح أن تكون أجهزة النظام قد تخلصت بها من مئات الألوف من السوريين المعارضين والأبرياء. وقد ظن البعض أن مرسوم العفو جاء للتعتيم على المجزرة وتطييب خاطر السوريين وتبييض صفحة النظام، لكن الحقيقة أن العفو لا علاقة له أبداً بالمجزرة، ولا يمكن أن يكون قد صدر بهذه السرعة، بل هو ثمرة تفكير وتخطيط مسبق وبتنسيق مع بعض القوى الدولية والعربية المتواطئة مع النظام لدفن ملف مئات الألوف من المعتقلين السوريين والمختفين قسرياً بعفو عام شكلي خبيث قد يبدو في ظاهره غير مسبوق، لكنه في واقع الأمر ليس عفواً بقدر ما هو محاولة قذرة وخبيثة لطمس الحقيقة ودفنها والتباهي أمام العالم بأن النظام قد نظـّف سجونه وانتهى إلى غير رجعة من أكثر ملف ضاغط داخلياً وخارجياً، ويا دار ما دخلك شر. لكن هيهات أن تمر هذه الخدعة وهذه اللعبة الحقيرة على السوريين. هيهات أن يضحك علينا بالإفراج عن مئتي معتقل ويقول ها نحن قد انتهينا من ملف المعتقلين بشكل كامل كما يقول فراس طلاس في منشور له على فيسبوك، بينما عدد المعتقلين والمختفين الذين قتلهم يُقدر بمئات الألوف. ونهيب بالسوريين جميعاً أن يحصوا عدد المفقودين والمعتقلين على الأقل للتاريخ، وألا تمر عليهم كذبة العفو المزعوم المفضوحة لتغطي على جرائم هذه العصابة وعلى جراحات أهالي مئات الألوف من السوريين الذين قضوا على طريقة أمجد يوسف البربرية.
احذروا ثم احذروا ولا تقعوا في الفخ. قد تعتقدون أن مجزرة كيماوي الغوطة أو التضامن هي أكبر مجازر النظام، لا أبداً، بل إن أكبر مجزرة إذا مرّت هو مرسوم العفو رقم سبعة الذي أصدره المدعو بشار لدفن ملف المعتقلين مرة واحدة وإلى الأبد، ويكون بذلك قد نفذ مجزرة تاريخية أكبر بحوالي نصف مليون معتقل قتلهم سابقاً، ودفنهم رسمياً أمام العالم أجمع، وطوى صفحتهم بمرسوم عفو شكلي انطلى على المغفلين.
كما لا يجب أن ننسى، والحال، وفي ذات السياق، مرسوم تحريم التعذيب في السجون السورية الذي أصدره رأس النظام الفاشي قبل فترة. هل تعلمون لماذا أصدره؟ كي يدفن به أيضاً ملف مئات آلاف المعتقلين الذين قتلهم، فبعد أن أصبحت سجونه فارغة أطل علينا بهذا المرسوم الهزيل المضحك، ليس لأنه بات حنوناً، وتاب إلى ربه توبة نصوحاً، بل لأنه أنقذ المعتقلين من التعذيب بقتلهم جماعياً على طريقة الموتور أمجد يوسف.
وبما أن العفو خلبي و«فاشوش» من أساسه وغاياته شريرة فكيف للسوريين أن يثقوا به ويصدقوه أصلاً؟ صحيح أن وزير العدل السوري أصدر بياناً توضيحياً يقول فيه إن العفو يشمل الجرائم الإرهابية المرتكبة من قبل السوريين قبل تاريخ 30/4/ 2022 ويلغي كافة البلاغات والإجراءات، إلا أنه (هذا لو صدقناه) نسف العفو من إساسه بجملة قصيرة في نهاية البيان تقول: «باستثناء من يثبت استمرار انتمائه إلى منظمات إرهابية أو ارتباطه مع دول أخرى». وهذه عبارة مطاطة تفسرها أجهزة الأمن والقضاء السوري الموجه على هواه، وبالتالي يمكن استخدام هذه العبارة لاستثناء السواد الأعظم من السوريين الذين لفق لهم النظام تهم الإرهاب وهم بمئات الألوف. فكل من عارض النظام بالكلام أو حتى على فيسبوك كان قد أصبح متهماً بممارسة الإرهاب بموجب قانون الإرهاب الكوميدي.
وحتى لو صدر عفو عام، فمتى طبق النظام العفو أصلاً في كل المرات السابقة إلا على كلابه وشبيحته والذين تختارهم الأجهزة حصراً، وكلنا يعرف ماذا حدث للسوريين المساكين الذي أجروا تسويات مع النظام، فإما تمت تصفيتهم أو أرسلتهم المخابرات إلى السجون أو اختفوا وراء الشمس، وبالتالي لا يمكن لسوري يملك ذرة عقل أن يصدق أو يثق بأي عفو يصدره النظام الفاشي الذي كان يلاحق أكثر من أربعة ملايين سوري أمنياً قبل الثورة فما بالك بعدها. من يصدق نظاماً يكذب حتى في درجات الحرارة؟ ولا ننسى أن النظام كان قد عفا عن إرهابيين وتجار مخدرات حقيقيين مرتبطين به، بينما أنزل أقسى العقوبات بصحافيين وكتاب وناشطين سلميين. تصوروا مثلاً أن العفو الأخير الذي طبل وزمر له بعض المغفلين أو أبواق النظام يستثني أصحاب الرأي والكلمة من العفو، كما يستثني الذين يوهنون ما يسمى بالشعور القومي أو الذين أثاروا النعرات عبر وسائل الإعلام. قمة المسخرة والتنكيت الرخيص. يعني إذا مارست الإرهاب فعلاً فأنت يشملك العفو المزعوم، أما إذا تحدثت ضد النظام واستخدمت لسانك وقلمك فقط فأنت لا يشملك العفو، ومن حق الدولة أن تحكم عليك بالإعدام وتصادر أملاكك. والله لا أمزح، فهذا الحاصل تماماً في سوريا اليوم مع آلاف السوريين. باختصار إذا حملت السلاح، فأنت طليق حسب العفو الهزلي الأخير، أما إذا حملت القلم، فأنت مغضوب عليك إلى يوم الدين. يا سلام، وما شاء الله، على هكذا قضاء وهكذا عدالة.
وقد تواصل معي بعد صدور العفو محامون وناشطون ومسؤولون سوريون من داخل سوريا، وبعضهم على ارتباط مباشر مع النظام ليسخروا من العفو الأخير. وقد أخبرني أحد المحامين من حلب حرفياً أنه شارك في الثورة لفترة من الزمن، ثم تصالح مع النظام، وبدأ يعمل مع أجهزة الأمن السورية بإخلاص، وهو على تواصل يومي مع بعض الفروع الأمنية، لكن المضحك أنه ما زال حتى الآن مُلاحقاً أمنياً وعليه بطاقات بحث لدى الأمن السياسي والمخابرات العسكرية رغم أنه يعمل مع الأجهزة. وأخبرني المحامي حرفياً أن مئات السوريين الذين أجروا تسويات مع النظام ما زالوا خاضعين للملاحقة الأمنية، ولا يستطيعون السفر لأن المطارات تقول لهم إن عليكم بطاقات بحث ومراجعات أمنية لدى هذا الفرع أو ذاك وعليكم أولاً إلغاء بطاقات البحث لدى الأجهزة قبل التمكن من السفر، بينما الأجهزة ترفض إزالة بطاقات البحث بحق الذين أجروا تسويات معها من سجلاتها. فإذا كان الوضع هكذا مع الذين سوّوا أوضاعهم وصاروا يعملون مع الأجهزة، فما بالك بالسوريين البسطاء المطلوبين للنظام وعددهم بالملايين.
مراسيم العفو السورية المزعومة تذكرنا بقصة القاتل الذي كان يعفو عن الضحايا بعد أن يقتلهم، والأهم من يجب أن يعفو ويصفح عمـّن؟ السجين عن السجان؟ أم القاتل عن الضحية؟
هل يحق لنظام مطارد أصلاً من محاكم العدل ومطلوب للعدالة أن يكون قاضياً يصدر مراسيم عفو؟
شيل عمي شيل.
وسوم: العدد 981