مشاكل أمتنا تبدأ عند العلماء وتنتهي على أيديهم
ومجتمعاتنا ليست غبية، ولا متخلفة، ولا معاندة مشاكسة، ولو هديت إلى الرشد لاهتدت..
تعليقات كثيرة ومتباينة وصلتني منذ الأمس عن فزعي من حديث "إن الله لا ينتزع العلم انتزاعا…" وما صار إليه حال الأمة.. بغياب أو تغييب العلماء، واضطراب الرؤية والموقف عند سواد منهم.
أهم التعليقات - الاعتراضات التي وصلتني- التنويه بانتشار مدارس تحفيظ القرآن، وإقامة صروح العلم في أرجاء العالم الاسلامي، وكثرة الإقبال عليه..
وكل ذلك طيب وجيد. وأحب أن ألفت النظر ، فيما قلت إلى أمرين:
الأول أن العلم الشرعي الذي نتحدث عنه، ليس علم نصوص وقواعد تتداول فقط. والفقهاء أنفسهم - فيما نتابع-حفظوا النصرص والقواعد نفسها، وتخرجوا بالأساتذة أنفسهم، ومن المعاهد نفسها، وبعضهم كان جليس مقعد في المعهد نفسه؛ ثم تفرقوا، كما نرى أيدي سبا، ولكل قبلة في الحياة هو موليها، ولم تنفعهم وحدة قبلتهم في الصلاة، في توحيد قبلتهم في طرق الحياة!! ودعونا نحصر أنفسنا في علماء سورية جميعهم، أنموذجا، ونرى…
هم في صف بشار الاسد أيدي سبا حتى يمكر وزير الأوقاف بالمفتي..
وهم بين ظهرانينا كما نسمع ونرى، ولا أزيد…
ومدار العلم ليس على المعلومة التي يتم تداولها، أو تلقينها من العالم لطالب العلم. هناك مقومات مهمة في شخصية العالم الذي يُنتقص بموته العلم الذي نخاف عليه، ومنها: الحكمة في حسن وضع العلم في موضعه، ومنها الخشية. (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ)
وحين تنتفي الخشية. يقال للرجل؛ ولو سوّدت وجهك بالمداد.
ابن باعوراء الذي ضرب به القرآن الكريم مثل السوء، (فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ) لم يكن تنقصه المعلومة المحفوظة، (آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا) ربما أحدهم يستطيع أن يؤلف كتابا في حقيقة "الانسلاخ" من آيات الله، مفهومه وصوره وأشكاله وتردداته، ونماذجه ..
القضية الثانية المهمة أطرحها في سؤال:
دخل المسلمون، علماؤهم وعامتهم فضاء القرن الرابع عشر، والخامس عشر الهجري، وكل العلوم الاسلامية، تحتاج إلى مد ظل، لتغطي حاجات الناس..كان لشجرة الفقه الاسلامي في جميع فروعه أن تبسق ، لتظلل أمة المليار..
وانظروا في علم الفقه، وهو أحد علوم الشريعة، مثلا..
كان المسلمون في حاجة إلى أن تمتد ظلال شجرة فقههم العملي في ميادين كثيرة منها، السياسة، والاجتماع، والاقتصاد؛ وما أضربه على سبيل التمثيل..
فلماذا تم تعميق وبسط وتجديد فقه الصيرفة الاسلامية والسفتجة، وأقيمت البنوك والمصارف الاسلامية، وكل ذلك حسن وجيد، وجَمُدت فروع الفقه الأخرى. بل تراجعت عما وصلت إليه في القرون الرابع والخامس والسادس والسابع، إلى الحال الذي نرى؟؟!!
مرة أخرى شيء ما يعيدني إلى قاعدة "يسقط الطير حيث يُنتثر الحب" الموسرون المسلمون من أصحاب الدثور، احتاجوا إلى ظل يؤون إليه، فدفعوا، فوجدوا من يتخصص في تلبية احتياجاتهم. المجتمعات المسلمة التي تتلوى تحت سياط الحاجات المفتوحة، لا تملك أن تدفع فلا تزال تحشر في ظل الشجرة التي كانت منذ قرون.
تصوروا وعدد حجاج بيت الله الحرام أصبح يزيد على الملونيين، تصوروا لو أننا ما نزال نطوف على سعة مكة المكرمة يوم كانت على عهد الراشدين!!
في كتب الفقهاء أنفسهم، تأكيد: لا يفتي المفتي، لأهل بلد لا يعرف، عوائداهم، وأعرافهم، والمستقر من عاداتهم.. ويشددون النكير على ذلك..
وإذا كانوا قد نصوا رحمهم اللهم ما أزكاهم وأذكاهم وأذكنهم؛ على أن المفتي لا يفتي لأهل مصر بعيد عن مصره، حتى يعلم، فكيف يقولون لمن تستجر فتواه لأهل قرن بعيد عن قرنه، بغير رأي من الأول ولا رضا..!! ينقلون الفتوى عن فلان وفلان وفلان وهؤلاء رحمهم الله كانوا يأبون..،
ويجلس على الهواء وقد نشأ في بئر في البلد القفر، وما رأت عيناه قطُ البحر، فيأتيه السؤال من أحد أطراف الأرض الأربعة، فيبتدئ الجواب: بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله؛ ثم يفتي الناس ببعض ما حفظ عن هامش من الهوامش، وحاشية من الحواشي. المكتوبة لأهل زمان غير الزمان، ولأهل مكان غير المكان!!
اللهم أكرمنا بعلماء صادقين من أهل معرفتك وخشيتك. يخرجون هذه الأمة من حالة التردي والذلة والانكسار، وينفون عنها الغثائية التي جعلتها قصعة يتداعى عليها المتداعون.
وسوم: العدد 982