استفحال آفة الكذب بسبب غياب التثبت في نشر الأخبار عند كثير من مستعملي وسائل التواصل الاجتماعي
من المعلوم أن كل خبر يحتمل الصدق والكذب كما يقول البلاغيون في تعريف الخبر باستثناء خبر السماء الذي لا يأتيه باطل من بين يديه ولا من خلفه ، وقد حفظه المولى جل وعلا من ذلك ، وكذا ما صح عن رسوله صلى الله عليه وسلم. ومعلوم أن القرآن الكريم والحديث النبوي الشريف قد شددا معا في أمر تداول الأخبار دون تثبت من صحتها لما قد يترتب عنها من مفاسد ومضار قد يكون بعض الناس ضحاياها .
أما ما جاء في القرآن الكريم من التثبت في تداول الأخبار فقوله تعالى : (( ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا )) ومعلوم أن القفو يكون بمعنى اتباع الأثر، وبمعنى رمي الغير بالأمر القبيح ، وبناء على هذا يكون من معاني هذه الآية الكريمة عدم اتباع الغير في كل ما يتحدث به دون علم بصحته وصوابه مخافة أن يكون كذبا وزورا ، وكذا عدم رمي الغير بالأمر القبيح غيبة أو زورا وبهتانا ، وقد جاء في تفسير قوله تعالى : (( ولا تقف ما ليس لك به علم )) لا تقل للناس أو فيهم ما لا علم لك به ، فترميهم بالباطل ، وتشهد عليهم بغير الحق ، ولا تقل سمعت، ولم تسمع ، ورأيت ولم تر ، وعلمت ولم تعلم ،لأن الحواس التي بها يحصل السمع والبصر والعلم مسؤولة أمام الله عز وجل يوم الوقوف بين يديه للحساب .ومضمون هذه الآية الكريمة فيه تحذير خطير من تداول الأخبار دون تبيّن وتثبت . ومثل هذه الآية قوله تعال تحذيرا من تلقي الأنباء دون تبيّن أو تثبت لما يترتب عن ذلك من إلحاق الضرر بالغير، وهو ما لا ينفع معه ندم : (( يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبإ فتبيّنون أن تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين )).
وأما ما جاء في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فقوله : " كفى بالمرء كذبا أن يحدث بكل ما سمع " ،وهذا تحذير خطير أيضا من عدم التثبت من الأخبار قبل نقلها أو ترويجها ، ومثل هذا الحديث تحذيرا أيضا من عدم التحري والتثبت من تداول الأخبار قوله عليه الصلاة والسلام : " إن كذبا عليّ ليس ككذب على أحد ، من كذب عليّ متعمدا فليتبوأ مقعده من النار " ولئن كان هذا الحديث خاص بالكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم لخطورة الكذب عليه وهو الذي يوحى إليه من رب العزة ، ولا ينطق عن الهوى ، ذلك أن في الكذب عليه مساس بشخصه الكريم ، واستهداف للدين ، وتضليل للمسلمين .
وكما بيّن حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ناقل الخبر أو النبأ يكون أحد شخصين صادق في نقله إن سمع ورأى وعلم أي تثبت وتحرى الصدق أو كاذب في نقله إن لم يسمع ولم ير ، ولم يعلم ، أي لم يتثبت ولم يتحر . وبناء على هذا يكون ناقل الخبر دون تثبت وتحر بمنزلة الكاذب متعمد الكذب ، وهما سيّان في الكذب ، ولا عذر للأول في ذلك وإن لم يعمد الكذب .
وبالرغم مما جاء في كتاب الله عز وجل ، وفي حديث رسوله صلى الله عليه وسلم من تحذير خطير لمن لا يتثبت في نقله الأخبار ، فإن كثيرا من الناس في مجتمعنا المسلم قد انغمسوا بشكل غير مسبوق في نقل الأخبار وتسويقها على أوسع نطاق دون تثبت أو تحر بسبب استعمالهم وسائل التواصل الاجتماعي المنتشرة بينهم ، ذلك أن الواحد منهم لا يكاد يتوصل عبرها بخبر مكتوب أو منطوق أو مصور حتى يبادر بنشره بين معارفه وأقاربه ليكون هو أول فاعل و قد يرى في ذلك مزية دون أن يبالي بأنه أول كاذب يتحمل وزر نقله الخبر الكاذب ووزر من نقله عنه ، ويكون حجم الوزر بحجم عدد ناقلي الخبر عنه .
وكثيرا ما يتم الكشف عبر وسائل التواصل الاجتماعي عن أخبار زائفة أو فيدوهات ملفقة تتعلق بأحداث أو مشاهد سبق نشرها من قبل ،ولا صلة لها بالحقيقة أو الواقع الذي يزعم الكشف عنهما . والذين يسوقون مثل هذه الفيديوهات يكونون إما متعمدي الكذب لتوريط غيرهم في نشره على أوسع نطاق أو ضحايا يصدقون لسذاجتهم كل ما يتوصلون به من أخبار أو مشاهد ، وهذا لا يعفيهم من مسؤولية المشاركة في نشر الكذب .
ومع أن الكشف عن الفيديوهات الملفقة لم يعد بالأمر الخافي على معظم الناس ، فإن الكثير منهم من لا زال يتعامل معها على أساس أنها حقيقية لا يأتيها باطل من بين يديها ولا من خلفها ، وكل همّهم أن يكونوا السباقين إلى ترويجها كي يشكروا أو يحمدوا على ذلك ، وهم يتنافسون في ذلك التنافس الشديد ، ويفاخرون به .
ومن الكذب والتدليس في نشر الأخبار أن يعمد البعض إلى تكذيب الأخبار أو الفيديوهات الحقيقية ، وينشرون تكذيبهم لها بين الناس لطمس حقائقها ، ويتلقف ذلك عنهم الكثير على أنهم صادقون . وكثيرا من يفتضح أمر المكذبين لما يصدق ويصح من أخبار بحيث تتأكد حقيقتها بأدلة وبراهين لا مجالا لإنكارها أو طمسها.
وكثيرا ما يصاب الأبرياء بجهالة بسبب ما يروج عنهم من أخبار كاذبة ، وتشوه سمعتهم بين الناس في غياب الوازع الديني والأخلاقي حتى أصبح الناس اليوم يتقاضون أمام القضاء بسبب ما ينال بعضهم من أضرار سببها ترويج الأخبار الكاذبة عنهم .
ويحسن بنا كمسلمين ألا نتخذ من وسائل التواصل الاجتماعي ولا حتى من بعض وسائل الاعلام التي يسجل عليها نشر الأخبار الكاذبة مصدر نشدان الحقائق لتبرئة الذمم من الانخراط فيما نهى عنه الله عز وجل ، ونهى رسوله صلى الله عليه وسلم . وعلى مستعملي وسائل التواصل الاجتماعي أن يتحلوا بالفطنة وألا يرضوا لأنفسهم أن يعبث بهم العابثون من مسوقي الكذب، وهم يستخفون بعقولهم ، ويجعلونهم مطايا تركب ، أو قطعانا تساق حين يرضون خدمة سفلة وفسّاق بتسويق أراجيفهم وأكاذيبهم وزورهم وبهتانهم دون تثبت .
وسوم: العدد 986