استهداف الغنوشي وحركته يعيد تونس إلى المربع الأول
ما الذي فعله الشيخ راشد الغنوشي لكي يتعرض لهذا التنكيل الذي لا يليق بمثله؟ ولماذا الصمت الغربي المطبق تجاه الانقلاب الذي قام به الرئيس على الدستور والبرلمان وبقية المؤسسات الدستورية؟
ما المسوّغ لما حدث في البلد الذي انطلقت منه شرارة الثورة التي عمت العديد من الأقطار العربية وأشعلت ما سمي وقتها «الربيع العربي»؟ كانت تلك الشرارة مفاجئة للكثيرين، خصوصا الغربيين الرافضين لمبدأ التحول الديمقراطي في الشرق الأوسط كسياسة ثابتة تغلف دائما بمقولات يطغى عليها النفاق والدجل.
كان زخم ثورة تونس من القوة بحيث لم يمكن حماية شخص الرئيس السابق، زين العابدين بن علي، فجاء قرار الإطاحة به لانهاء الثورة ومنع سقوط النظام. وتكرر السيناريو نفسه في مصر بعد أسابيع حيث أجهض المشروع التغييري للثورة وتمت التضحية برئاسة حسني مبارك وتمت المحافظة على النظام. يومها تشكل تحالف قوى الثورة المضادة الذي يسعى للهيمنة على أوضاع العالم العربي ويحول دون حدوث تغيير جوهري يؤدي إلى تحول ديمقراطي حقيقي، ويروّج التطبيع مع كيان الاحتلال. فكأن هذه المنطقة قد حكم عليها بالبقاء تحت الاستبداد إلى ما لا نهاية، وكأن شعوبها لا تستحق أن تتذوق الحرية وتشارك في إدارة بلدانها وتمارس سيادتها على بلدانها. ولطالما روّج الغربيون في السنوات العشر اللاحقة أن تونس هي «التجربة الناجحة» للتحول الديمقراطي، بهدف إيهام شعبها والعالم أن ما حدث فيها كان حقا تحولا ديمقراطيا. ولكن ثمة صمتا واسعا إزاء ما يجري، ولا يخفى وجود دعم غربي للإطاحة بآخر روّاد الصحوة الإسلامية العرب، لطي صفحة خمسين عاما من تلك الحقبة.
هذه الفرية لم تنطل على العالم فحسب، بل أن رموز الثورة ونشطاءها والأحزاب المعارضة التي ذاقت الأمرين في ظل الاستبداد، تماهت مع تلك المقولات الفارغة، واعتقدت أن بإمكانها ممارسة العمل السياسي والوصول إلى أعلى مراتب السلطة ضمن دعاوى التعددية والتداول على السلطة، برغم علمهم أن النظام السابق لم يسقط أبدا، بل بقي تحت رعاية أجنبية دقيقة. فقبلوا رئاسة محمد قائد السبسي الذي كان أحد أقطاب النظام السابق، وبعده صعد إلى الرئاسة قيس سعيد الذي تم تقديمه أنه مستقل ولا علاقة له بالنظام السابق. ولم ينحصر تماهي الإسلاميين مع الوضع الجديد بقبول استمرار النظام السابق، بل اعتقدوا كذلك أن تنازلاتهم الإيديولوجية والسياسية ستمنحهم حصانة أمام قوى الثورة المضادة، وفاتهم أن هذا التحالف قد شحذ سيفه لقطع رأس من يعارض سياساته. ومارست حركة النهضة قدرا من التذاكي، تارة بالتخلي عن شعاراتها الإسلامية، وأخرى بتأكيد ليبراليتها، وثالثة بمحاولة الابتعاد عن التجارب الإسلامية الأخرى معتقدة أن ذلك سيخفف من غلواء قوى الثورة المضادة. فبرغم هذه السياسات لم تستطع إلغاء انطباع الآخرين عنها وعن هويتها وتاريخها السياسي، وأنها تعود تاريخيا لحركة الإخوان المسلمين وأنها كانت ضمن التنظيم العالمي للجماعة قبل أن يتلاشى. وفات الحركة أن هذه السياسات إنما تساهم في إضعافها شعبيا وتقلص من بريقها كبديل لنظام سياسي لم يستطع أن يرتقي يوما بمستوى الحريات العامة أو إقامة حكم القانون.
كما فات قادة حركة النهضة حقيقة أخرى برغم وضوح مصاديقها وتعددها.
هذه الحقيقة أن قوى الثورة المضادة تركز بشكل أكبر على الهوية التاريخية لأية حركة معارضة، خصوصا إذا كانت إسلامية. فهي تعتقد أن ذلك جرم له سمات عديدة: أولها أنه جرم عقابه الإعدام بمعنى استحالة التعايش معه، وأن إعادة احتضان أية حركة إسلامية مهما غيرت من مبادئها مستحيل، ثانيها: أن الانتماء لما يسمى الإسلام السياسي جرم لا يعدله جرم، ولا يغفر لمن يقوم به، وأنه لا يصلح لأن يكون مواطنا فضلا أن يصل إلى موقع القيادة. ثالثها: أنه جرم لا يسقط بالتقادم، فمن ارتبط يوما بمشروع الإسلام السياسي سيكون مرفوضا دائما وسيطبق عليه أقسى الأحكام.
إن ما يتعرض له الشيخ راشد الغنوشي من اضطهاد كان متوقعا لدى المراقبين الذين كانوا ينتقدون استعجاله في الانخراط في «التغيير» الذي هندسته قوى الثورة المضادة في تونس وفي مصر كذلك، ومن ثم قبوله بـ «نصف ثورة». فقد نجم عن ذلك ضرب حركة النهضة بشكل موجع، وتم تهميشها سياسيا وشعبيا، كما يسعى أعداؤها للنيل من مصداقيتها لتقليص شعبيتها. وفي الاسبوع الماضي قالت منظمة العفو الدولية في تقرير حول تونس: «تتسم حالة حقوق الإنسان في تونس بالهشاشة أكثر من أي وقت مضى بعد مرور عام على هيمنة الرئيس قيس سعيّد على السلطة. فقد تم تفكيك الضمانات المؤسساتية لحمايتها بالكامل تقريبًا، وفقد القضاء الضمانات الواجبة للحفاظ على استقلاليته، واستهدفت المحاكم العسكرية بشكل متزايد منتقدي الرئيس بقوانين قمعية، في حين تقلّص الحق في حرية التعبير مع الملاحقة القضائية لما لا يقل عن 29 معارضًا بارزًا بتهم زائفة». وجاء في التقرير أيضا: «إن الظروف اليوم مؤاتية للعودة إلى نظام استبدادي. ترزح حرية التعبير تحت الضغوط، وتتعرض حرية تكوين الجمعيات أو الانضمام إليها للتهديد، بينما يُداس الحق في المحاكمة العادلة. والمؤسسات التي كانت تعتبر حصنًا ضد سوء المعاملة إما أنها ضعيفة أو مفككة».
وتجدر الإشارة أن الشيخ الغنوشي كان قد انتقد أداء إخوان مصر بعد الانقلاب العسكري الذي قاده عبد الفتاح السيسي في 2013، واتهمهم بالتشدد، وانسحب علنا من مؤتمر إخواني عقد في تركيا في 2018، معتقدا أن أسلوبه في التعاطي مع الوضع سيحمي الحركة من المصير الذي لقيه إخوان مصر. وربما كان يرى اختلافا جوهريا بين عبد الفتاح السيسي وقيس سعيد. والواضح أن قرار التصدي لما يسمى «الإسلام السياسي» شامل ومتواصل وجاد، وان تحالف قوى الثورة المضادة يسعى لاقتلاع جذوره من نفوس الأجيال الشابة التي يتم إعادة بناء ذهنيتها بعيدا عن الدين. فحركة النهضة مارست حقها الطبيعي ولم تخرج عما هو مألوف من السياسات، خصوصا مع تجميد توجهاتها الأيديولوجية. ربما اعتقد بعض قادة الحركة أن هذا التوجه عامل لردع قوى الثورة المضادة عن استهدافهم، ولكن من المؤكد أن هذا التوجه من أسباب ضعفها، خصوصا مع وجود مقاومة لذلك لدى قطاعات واسعة من شبابها. ولا يستبعد أن تواجه النهضة في المرحلة المقبلة أوضاعا أصعب مما واجهته قبل أربعين عاما، عندما حاكم نظام بورقيبة قادتها وعلى رأسهم الشيخ راشد الغنوشى واتهمهم آنذاك بأنهم «خمينيون» وعملاء لإيران، وهي التهم السائدة آنذلك للحركات الإسلامية. يومها انتهت المحاكمات بسجن قادة الحركة، وبعد خروجهم اضطر الشيخ الغنوشي في العام 1989 لمغادرة تونس واللجوء إلى بريطانيا، ولم يعد لبلده الا بعد الثورة في العام 2011. ربما حان الوقت لموقف واضح من قبل حركة النهضة التي يسعى اعداء الأمة لذبحها، تعلن فيه عودتها إلى جذورها وعدم التعويل على «الديمقراطية الغربية» التي خذلت الشعوب العربية عندما هبت لاستعادة حقوقها. مع ذلك فان استهداف الغنوشي وجماعته وحركته جريمة أخرى تضاف للقائمة السوداء الطويلة من جرائم التحالف الشرير لقوى الثورة المضادة، الهادف لحماية الاحتلال وترويج التطبيع الذي كانت الصحوة الإسلامية حائلا دونه.
وسوم: العدد 990