قادة المخابرات الإسرائيليون يتحدّثون علنًا وبقلق
تحت عنوان «إرهاب في عين العاصفة»، عقد «معهد السياسات ضد الإرهاب» التابع لجامعة «رايخمان»، وهي جامعة خاصة في هرتسليا، مؤتمره السنوي الـ 22، وشارك فيه قادة أجهزة المخابرات الإسرائيلية، الموساد والشاباك وأمان، وتحدثوا لأول مرّة في خطابات علنية غير مسبوقة عن قضايا «الأمن القومي الإسرائيلي» في مواجهة ما يسمّى بالإرهاب والتحديات العسكرية والأمنية الأخرى، معبّرين من جهة عن زهوّهم بقدرات أجهزتهم ودولتهم، ومن جهة أخرى عن قلق شديد من التحوّلات الإقليمية والداخلية القائمة والمتوقّعة. وشاركت في المؤتمر عشرات الوفود والشخصيات الأكاديمية والحكومية والمستقلة من الولايات المتحدة وبريطانيا ودول الاتحاد الأوروبي، ودول أخرى، ومثّل «العرب» السفيرة نانسي جمال رئيسة قسم الشؤون الاستراتيجية في وزارة الخارجية البحرانية. ويبدو من استعراض سريع لأسماء القيادات الإسرائيلية المشاركة في المؤتمر، أنّها ضالعة في ارتكاب جرائم إرهابية ضد فلسطينيين وعرب وإيرانيين، ولا مبالغة في القول بأنّه مؤتمر «إرهابيون ضد الإرهاب».
جامعة «رايخمان» هي الجامعة الإسرائيلية الخاصّة الأولى، وهي على اسم مؤسّسها البروفيسور أريئيل رايخمان أستاذ القانون الدستوري. وفي هذه الجامعة عدّة معاهد تعنى بشؤون الأمن القومي الإسرائيلي، ويعتبر معهد السياسات ضد الإرهاب من أهمّها، ويستقطب مؤتمره السنوي باحثين وساسة ومختصين بالشؤون الأمنية في المجالات كافة المتعلّقة بما تسميه إسرائيل مكافحة الإرهاب.
لقد دأبت المؤسسات البحثية الإسرائيلية والأذرع الأمنية والأبواق السياسية والإعلامية على تسويق الحالة الإسرائيلية على أنّها: أوّلا ضحية الإرهاب، وثانيا مكافِحة ضد الإرهاب، وثالثا، منفتحة لتحالفات لمحاربة الإرهاب، ورابعا صاحبة خبرة وقدرات في الحرب ضد الإرهاب، يمكن أن يستفيد منها الآخرون، وخامسّا في حالة دفاع عن النفس ضد الإرهاب. إسرائيل هي مدرسة في قلب الحقائق رأسا على عقب، فهي تقتل وتدمّر وتحرق وتقمع وتضطهد وتبيد الزرع وتسلب الأرض، ثم تتباكى بأنّها ضحية تدافع عن نفسها في وجه «الإرهاب».
ما الذي يقلقهم
يستدل من الاستماع إلى تسجيلات خطابات رؤساء الأجهزة الأمنية الإسرائيلية في المؤتمر المذكور أنهم قلقون على حالة «الأمن القومي الإسرائيلي» في مواجهة التحديات الداخلية والإقليمية والدولية. ويبدو أنهم وجّهوا كلامهم أوّلا إلى آذان أمريكية، بعضها حضر المؤتمر، والبعض الآخر في واشنطن، بالأخص في شأن تداعيات النووي الإيراني، وثانيا كرسالة إلى الرأي العام الإسرائيلي للتأكيد على أولوية الاعتبارات الأمنية ولتحضير المجتمع الإسرائيلي لمواجهات ممكنة، وثالثا إرسال تهديدات مباشرة إلى كل من «يتحدّى» إسرائيل في إيران وسوريا ولبنان وغزّة والضفة الغربية. قادة أجهزة المخابرات الإسرائيلية هم الساهرون على حماية غنائم أكبر عملية سطو مسلّح، وعلى ضمان استمرارها «بأمان وسلام». والاستماع إليهم فيه نوع من المعاناة، بالذات لأنهم يتحدثون بلباقة ورصانة، ويلبسون أقنعة الحرص على الديمقراطية وعلى الحضارة الغربية وعلى أمن المواطنين، من منطلق «الدفاع عن النفس»، الذي هو كذبة لا تضاهيها أية كذبة. وهم حين يطرحون تقييماتهم وتحليلاتهم ورؤياهم ومقترحاتهم حول «مكافحة الإرهاب»، فهم في الحقيقة، قولا وفعلا، أشرس المدافعين عن إرهاب الدولة الإسرائيلي وعن مركبات الهيمنة والتفوّق والعنف «العقلاني» في المشروع الكولونيالي الصهيوني، وفي مفهوم الأمن القومي المشتق منه.
ما الذي يقلقهم؟
أولا، كان الأمر الأبرز، وليس بالضرورة الأهم، في خطاب رئيس الشاباك رونين بار، هو إطلاقه لتحذير مباشر بأن الانقسام الداخلي وعدم الاستقرار السياسي يشجّع على القيام بعمليات ضد إسرائيل. وقال إن «المواد الاستخباراتية التي تصلنا والتحقيقات التي نجريها مع منفذي عمليات، وكذلك من تراكم معرفة لأعدائنا، بالإمكان الجزم، أن اختلال الاستقرار (السياسي) وتعميق الانقسام الداخلي، وتآكل القواسم المشتركة التاريخية، والخطاب الذي يزداد تطرفا، هذه كلها تشكل حقنة تشجيع لدول محور الشر، والمنظمات الفلسطينية ومنفذي العمليات الفردية. وهنا بإمكان الشاباك أن يحذر فقط وبالتأكيد ليس بيده المعالجة، وهذا بأيدي كل واحد منّا». المعنى العملي لهذا الكلام أن الشاباك يضغط على القيادة السياسية أن تقيم حكومة مستقرة بعد الانتخابات، ويوفّر غطاءً أمنيا لمن سيقوم بعد الانتخابات بالسعي لإقامة حكومة وحدة، محذّرا من أن من عدم إقامتها يعرّض أمن إسرائيل للخطر. أكثر من ذلك هو يقول بين السطور إن الحكومة الحالية فشلت في توفير الاستقرار. ومن المستغرب أن يوافق رئيس الوزراء الإسرائيلي، يئير لبيد، على السماح لرئيس الشاباك بالقيام بهذا التدخل السافر في الحلبة السياسية. ولو أراد لاستطاع منعه فهو المسؤول المباشر عن الشاباك والموساد أيضا. يمكن أن يؤثّر كلام رئيس الشاباك في تشكيل الحكومة المقبلة، فلماذا سمح له لبيد بذلك؟ هل هو مجرد غباء مكشوف؟ أم دهاء مستتر؟
ثانيا، إسرائيل مشغولة بموضوع احتمال العودة إلى الاتفاق النووي مع إيران، وقلقة جدّا من إسقاطاته، ويبدو أن هناك خلافات جدّية بين الأجهزة الأمنية الإسرائيلية حول الموضوع، ويتمحور الخلاف بين شعبة المخابرات العسكرية، التي تفضّل التوصّل إلى الاتفاق لتجميد التقدم في المشروع النووي الإيراني لعدّة سنوات، تقوم إسرائيل خلالها بتجهيز جيشها وطرح تهديد له مصداقية مدعوم أمريكيا. في المقابل يدعو الموساد إلى السعي لإفشال الاتفاق النووي، وتعزيز التعاون مع الولايات المتحدة في أعمال تخريب ممنهجة في إيران وفي تشديد العقوبات عليها.
إذن ليس صدفة ألّا يتطرق رئيس شعبة المخابرات العسكرية، الميجر جنرال أهرون حليوة، في كلمته إلى الملف النووي الإيراني، مع أنه عبّر في السابق علنا عن دعمه للاتفاق، ويبدو أنّه عبر هذه المرّة عن موقفه بالتزام الصمت، لمنع تضارب المواقف في هذه المرحلة الحرجة. أمّا رئيس الموساد دافيد برنياع، فقال في كلمته «لن نكون شركاء في هذه المهزلة» محذّرا من أن الاتفاق لا يمنح حصانة من عمليات الموساد. وأضاف أن الاتفاق مبني على الكذب الإيراني، معللا بأن الأرشيف الإيراني، الذي سرقته إسرائيل من طهران يثبت ذلك، مع العلم أن هذا الأرشيف قديم وكل ما فيه كان قبل عام 2004، لكن هذا لم يمنع رئيس الموساد من تكرار كذبته، عملا بشعار الموساد المأخوذ من سفر الأمثال «حيث لا خداع يسقط الشعب أمّا الخلاص فبكثرة المشيرين». رئيس الشاباك، من جهته، لم يتطرّق إلى الملف النووي الإيراني مباشرة، بل إلى تأثير رفع العقوبات وضخ الأموال إلى الميزانية الإيرانية. وعشية المؤتمر أجرت إذاعة جامعة «رايخمان» في برنامج «الإرهابي» (هكذا اسمه!) مقابلة مع رئيس معهد السياسات ضد الإرهاب البروفيسور بوعاز جانور، الذي قال بأنه متأكّد من أنّه سيجري التوقيع على الاتفاق النووي مع إيران مجدّدا، مشيرا إلى أن ما يجري يعكس طريقة إيران في إدارة المفاوضات.
ثالثا، لعل أكثر ما يقلق أجهزة المخابرات الإسرائيلية هو رفع العقوبات عن إيران وارتفاع دخلها بما يقارب مئة مليار دولار سنويا، وتخشى إسرائيل، من أن يؤدّي ذلك إلى ارتفاع حاد في تمويل حزب الله وحركة حماس والجهاد الإسلامي والحوثيين وبقية حلفاء إيران، وأيضا إلى تكثيف العمل في صناعة الصواريخ الدقيقة والفتّاكة.
رابعا، عبّر رؤساء الأجهزة المخابراتية الإسرائيلية عن قلقهم من مستوى تسلّح حزب الله، خاصة في مجال الصواريخ الدقيقة، ومن التوتر الحاصل في ملف الغاز، واحتمال نشوء مواجهات عسكرية مع حزب الله، وأجمعوا على إرسال تهديدات بتوجيه ضربات عسكرية لم يسبق لها مثيل. المثير للانتباه هو قول رئيس شعبة المخابرات العسكرية بأنه لولا حزب الله لانضمت لبنان، في رأيه، إلى دول التطبيع العربي.
خامسا، ما يحدث في غزّة هو مصدر قلق إسرائيلي دائم، لكن رؤساء الأجهزة الأمنية لم يطرحوا ما يستدعي بنظرهم «زيادة القلق» سوى احتمال ارتفاع مستوى الدعم الإيراني لحماس والجهاد. وذهب الميجر جنرال أهرون حليوة رئيس شعبة المخابرات العسكرية إلى القول بأنه توقّع وما زال يتوقّع ألا تحدث مواجهة شاملة لمدة خمس سنوات على الأقل بعد معركة «سيف القدس»، وأكّد أن المواجهة المحدودة مع الجهاد الإسلامي لا تجعله يغيّر رأيه. ويبدو أن أجهزة المخابرات الإسرائيلية تدعم مشاريع التسوية والتهدئة مع حركة حماس.
سادسا، تطرّق المتحدثون في مؤتمر «الإرهاب في عين العاصفة» إلى ما يجري في الضفة الغربية، موجهين النقد الى السلطة الفلسطينية بـ»التقصير في إحباط الإرهاب»، مؤكّدين أن ما تقوم به أجهزة المخابرات الإسرائيلية هو «حماية مواطني إسرائيل من الإرهاب». ويرشح من حديثهم أن المؤسسة الأمنية بمجملها تدرس هذه الأيام إمكانية القيام بعملية عسكرية واسعة في منطقتي نابلس وجنين.
لقد تحدث رؤساء الأجهزة المخابراتية الإسرائيلية عن تهديدات أخرى على الجبهة السورية وعلى جبهة فلسطينيي الداخل والتحوّلات الإقليمية والدولية، لكن المؤسسة الأمنية الإسرائيلية مشغولة أيضا بتهديدات أخرى لا تقل أهمية، ومنها عدم توفير رد على القدرات الصاروخية لحزب الله وإيران والقصور في عرقلة التموضع الإيراني على الساحة السورية، ناهيك من المسكوت عنه رسميا وهو الزيادة الكبيرة في تسليح وفي قدرات الجيش المصري. صحيح أن إسرائيل هي دولة قوية ومدعومة من أقوى دولة في العالم، لكنّها تبقى على قلق كأن الريح تحتها ومرعوبة من رياح تغيير قد تهب من المستقبل.
وسوم: العدد 997