أمنُ الثورة، الأمن والقرآن الكريم (1 + 2 + 3)
أمنُ الثورة
الأمن والقرآن الكريم (1)
(تأصيل شرعيّ)
مفاهيم مغلوطة!..
يزعم بعض النـاس أنّ العمل الأمنيّ هو من الأعمال الغريبة عن نشاط الحركة الإسـلامية، ويتناقض مع توجّهاتها، وأهدافها، ومنطلقاتها! .. ويستنكرون أيّ نشاطٍ أمنيٍ تقوم به التنظيمات الإسلامية، أو المعنيّون من أفرادها!.. وقد تشكَّل مثل هذا الاقتناع عند هذا الصنف من الناس، نتيجة الخلفية النفسية تجاه العمل الأمنيّ في بعض الدول بشكل عـام، فالأمن أو "الأجهـزة الأمنية" في الدولة، ارتبط دوماً بواقعٍ وتاريخٍ مظلم، وَسَمَ جوانب كثيرةً من جوانب الحياة العامة لها!.. وتعبير "الأمن" أو "الجهاز الأمنيّ"، ارتبط في عالمنا بالقمع، والرعب، والسجن، والزنزانة، ومراقبة الناس، وكشف أستارهم، ومداهمة البيوت.. كما ارتبط بالجلاّد، والسَّوْط والتعذيب، والدولاب، والضحيـة، ونزف الدماء، والظلم، والقهر!..
المسلم وأمن الدولة
نعم، لقد ارتبط اسم "الأمـن" بكل المصطلحات القبيحـة المذكـورة آنفاً، في الوقت الذي يدلّ فيه هذا الاسم الراقي على: السكينة، والسلام، والاستقرار، والراحة المطلقـة، والرخاء، والعدل، والهدوء! .. وهذا الارتباط الشاذ هو واقع الحال في معظم دول العالم اليوم، وفي طليعتها دول ما يسمى بالعالم الثالث!.. فقد أُسِّست "الأجهزة الأمنية" في هذا العالم لحماية "نظام الحكم" بدلاً من حماية "الشعب" أو "الوطن"، لاسيما في الدول التي تُقلَبُ فيها الكراسي بقوّة السّلاح، وبِهمّةِ جنرالات "النياشين" الزائفة!.. وتُفرَض فيها أنظمة الحياة الجائرة ومناهجها، بقوّة "الأجهزة الأمنية" العتيدة، التي تَعتبر "الشعب" أو "المواطن" (منذ لحظة تأسيسها وإنشائها) الخصمَ الأول، والعدوَّ الذي لا يمكن الانتصار عليه إلا بمثل هذه الأجهزة القمعية!..
لقد أرسى هذا الواقع المرير (الذي كان نتيجةً من نتائج إقصاء الإسلام وأخلاقه وتعاليمه عن الحكم).. أرسى دعائم أرضيةٍ نفسيةٍ مشوّهةٍ تجاه "الأمن" عند الإنسان المعاصر، وبخاصةٍ الإنسان المسلم، الذي تعدّه بعضُ الأنظمة الوضعية، العدوَّ رقم واحد، الذي يتوجب عليه أن يتلذّذ بطعم "الأمن" المرّ بشكلٍ دائم، وأن يشعرَ -رغم أنفه- بنعيم تلك الأجهزة الأمنية في أقبيتها المظلمة!..
إنّه الأمن الزائف، وإنها "الأجهزة أو الأنظمة الأمنية" الظالمة، التي مارست الظلم على "اسمها"، قبل أن تمارسه -بأبشع صورةٍ أخلاقيةٍ- على شعوبها المقهورة المنكوبة بها!..
الحركة الإسلامية والأمن: تصحيح المفاهيم المغلوطة
الحركة الإسلامية ما وُجدت أصلاً إلا لتحكيم منهج الله في جميـع نواحي الحياة، ولإخضاع كلّ جبارٍ لحكم الإسلام العظيم، ولتحقيق العبـودية لله الواحد القهار لا شريك له، ولتحرير الإنسانية من العبودية للأنظمـة الوضعية الظالمـة، التي كان "أمنها" و"أجهزتها الأمنية" المستبدّة، إحدى إفرازاتها الظالمة "النّتنة"، التي شوّهت خُلُق "الأمن"، قبل تشويهها لأجساد ضحايا التعذيب في أقبيتها السوداء!.. والمطلوب من ابن الحركة الإسلامية الحقيقي، أن يتحـرّر من تلك الخلفية النفسية التي زرعها الطغاة في عقله الباطن، بالواقع القهريّ الذي فرضوه، لأنّ "الأمن" في المفهوم الإسلاميّ هو: تحقيـق الاستقرار، والسّهر على راحة الناس، والمرابطة على الثغور، وترسيخ معاني السكينة والهدوء والراحة المطلقة للأفراد وللمجتمع.. فالأمـن في العقليـة الإسلامية هو "الأمن"، ولا شيء سواه، من غير تحريفٍ أو تزييف!..
أمن الثورة، والأصل الشرعيّ الأول: الأمن والقرآن الكريم
لقد كانت الثورة السورية المبارَكة منذ اندلاعها، وماتزال، بحاجةٍ ماسّةٍ للحماية الأمنية والتنظيمية الإدارية، التي تصون مؤسّساتها وأفرادها وقياداتها، وتحميهم من أعدائها،.. وما أكثر هؤلاء الأعداء، وما أشدّ بأسهم وإجرامهم، وما أسهل انفلاتهم..
* * *
القرآن الكريم، الذي هو كتاب الله العظيم، ودستور الإسلام القويم، يحتوي -فيما يحتويه- على أعظـم المعاني الأمنية، ولا نبالغ مطلقاً عندما نقول: إنّ كتـاب الله عزّ وجلّ، جاء بالكثير من أساسيات العمل الأمنيّ ومفاهيمه ومفاتيحه، وقد أكّدت النصـوص القرآنية بشكلٍ لا يقبـل الاجتهاد أو طـول النظر والتفكير، أنَّ للعمل الأمنيّ أصلاً شرعياً من الأصول الإسلامية التي ينبغي للمسـلم أن يأخذَ بها، ويستفيد منها، ويُنفّذ روحها وتعاليمها، ومن أراد الدليل أو المزيد، فما عليـه إلا أن يستعـرض كتاب الله عزّ وجلّ، ويتلـوه "بعينٍ أمنيةٍ"، ليكتشف بنفسه حقيقة ما نقول!..
وقد زخرت قصص الأنبياء (عليهم صلوات الله وسلامه) في القـرآن الكريم .. بالعديد من المعاني والعِبَر الأمنية، خلال تبليغ دعوتهم لأقوامهـم، ومَن يتأمل في بعض تلك القصص.. فسيصل إلى اقتناعٍ قويٍ بأنّ الحـذر والأمن، كانا من الأساليب الضـرورية التي لا يمكن التخـلي عنها، في أي دعوةٍ من الدعوات التي حملها أنبياء الله عليهم الصلاة والسلام!..
سنستعرض -إن شاء الله- بعض هذا القصص القرآني بنظرةٍ تحليلية، نقـف فيها عنـد بعـض المفاصـل الأمنية، فنُظهرها ونعلّلهـا، لنأخـذَ منها العِبَر التي تفيدنا في توحيـد نظرتنا واقتناعنا -نحن أبناء الحـركة الإسلامية- تجـاه الأمن والعمل الأمنيّ.
وسنستعرض -بإذن الله- عدداً من النصوص القرآنية التي تؤكّد على مفاهيم العمـل الأمنيّ وأهميّته وأساسياته، بعد أن نقـرأها "بعينٍ أمنية"، فنوضّح فيها تلك المفاهيم والأساسيات، الضرورية لعمل الثورة والحركة الإسلامية المعاصرة، التي تعيش في القرن الحادي والعشرين!..
(وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) (الزمر:27).
أمنُ الثورة
الأمن والقرآن الكريم(2)
(تأصيل شرعيّ)
انتهينا في الحلقة السابقة، إلى أنّ الأمن في العقلية الإسلامية والمنهج الإسلاميّ هو: "الأمن"، ولا شيء سواه، فهو الذي يعني فيما يعنيه: تحقيق الاستقرار، والسهر على راحة الناس، والمرابطة على الثغور، وترسيخ معاني السكينة والهدوء والراحة المطلقة للأفراد وللمجتمع، إضافةً إلى حماية الصف الإسلاميّ (والثورة) والدعوة الإسلامية، والأمة الإسلامية.. من كل ما يعكّر أمنها واستقرارها وسلامة سيرها نحو تحقيق أهدافها بنجاحٍ كامل، وقلنا: إنّ القرآن الكريم زخر بالكثير من أساسيات العمل الأمنيّ ومفاهيمه ومفاتيحه، مما يجعل للعمل الأمنيّ أصلاً شرعياً ينبغي الأخذ به، وتنفيذ روحه وتعاليمه!..
حين نمرّ ببعض النصوص القرآنية الكريمة، إنما نمرّ مروراً سريعاً، لإظهار حقيقة ما نقول بجلاءٍ لكلّ فردٍ من أفراد الحركة الإسلامية، ولكل شخصٍ من أبناء الأمة الإسلامية، لأنّ تلاوة القرآن الكريم "بعينٍ أمنيةٍ" هي أسلوبنا لتوضيح تلك الحقيقة!..
الحيطة والحذر.. أوامر قرآنية مباشرة
المنافقون!.. أجل!.. هذا الصنف الخسيس من الناس، الذين يتغلغلون في الصفوف، ويتّخذون لأنفسهم أقنعةً متعدّدة، ويَسعون إلى تفتيت الصفوف من الداخل، بكل ما أوتوا من مكرٍ ودهاء، أولئك العيون الضّالة، عيون الكفار والأعداء على المسلمين.. والمفسدون الخطِرون على الأرواح والخطط والأفكار.. هؤلاء أخطر أهل الأرض على الثورة والإسلام وجنده.. ما الموقف منهم؟!..
(.. هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ) (المنافقون: من الآية 4).
نعم!.. أمر إلهي مباشر، لاتخاذ الإجراءات التي تكفل الأمن من شرّهم وأذاهم!..
(فَاحْذَرْهُمْ)، أوَلَيسَ "الحذر" والقيام بمتطلباته من أهم المبادئ الأمنية؟!..
(هُمُ الْعَدُوُّ)، (نعم العدوّ، لا من العدوّ)!.. لأنهم العدوّ الحقيقي الخطير كله، الذي ينبغي كشفه قبل تمكّنه من الصفوف، فيعمل على تدميرها من الداخل!..
(قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ)، لأنهم أعداء الله، لذلك فهو يبغضهم ويقاتلهم، وعلى المسلم أن يقوم بواجبه تجاههم فينفّذ أمر الله فيهم، فيحذرهم!..
ذلك ليس كل شيء فيما يتعلق بأولئك المندسّين في الصفوف، المدمِّرين لها:
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ) (آل عمران:118).. فربّ العزّة يصفهم بوضوح، ويكشف سرائرهم بجلاء، ويأمرنا أمراً قاطعاً بكشفهم، وإبعادهم عن كل موقعٍ في الصفّ، وبخاصةٍ المواقع الهامة التي تتعلّق باتخاذ القرارات الخطيرة أو المصيرية!..
إنّه بيان وأمر من الله سبحانه وتعالى للعاقلين الحريصين على مَتانة صفّهم ودعوتهم، من مكر الماكرين، وخبث المتربِّصين: (قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ)!..
نعم!.. إن كنتم تعقلون! ..
الحذر مطلوب في السِّلْم.. وفي الحرب أَوْلى وأهمّ
إذا كان الحذر وتحقيق "الأمن" بعملٍ أمنيٍ متكامل.. مطلوباً في حالات السِّلْم، فكيف به في حالات الحرب؟!.. علماً أنّ الحرب الحديثة متعددة الوجوه والأشكال:
(.. وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَة) (النساء: من الآية 102).
إنه العدوّ المتربّص في كل زمانٍ ومكان، ينتظر حالة "الغَفْلة والاسترخاء" في الصفّ، وهي حالة تتعارض مع حالة "اليقظة والحذر".. هذا العدوّ البارع بانتهاز الفرص التي تصنعها له حالة "الغَفْلة" ماذا يفعل؟!..
(فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَة)، مَيْلَةً لا تُبقي ولا تذر، تُهلِك الحرث والنسل، وتهتك العِرْض، وتغتصب الأرض، وتستولي على الديار، وتتحكّم بعباد الله، بطغيانٍ متوحِّشٍ لا مثيل له!..
إنها نتائج الغَفْلة والتفريط بأسس حماية الصفّ والجماعة المسلمة والأمّة المسلمة!..
أما تنفيذ الأوامر الإلهية بامتلاك أسس الحماية، الكفيلة بتحقيق الأمن للصفّ، فالله عز وجل يبارك ذلك ويدعمه ويمدّه بأسباب القوّة والحصانة:
(.. وَخُذُوا حِذْرَكُمْ)، فإن فعلتم: (.. إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُهِيناً) (النساء: من الآية102)، وقد يكون العذاب لهم على أيديكم، بنصر الله لكم عليهم في الحياة الدنيا، والتمكين لكم في الأرض!...
التثبّت من صحة المعلومة.. مبدأ قرآنيّ أمنيّ أخلاقيّ
ليس التعامل مع المعلومة أصمّاً، فالمعلومة في المفهوم الأمنيّ مادة خام، تحتاج إلى التحرّي والبرهان، فيُبنى على صحتها الموقف، ويُتَّخَذُ القرار المناسب.. وكم من معلومةٍ خاطئةٍ أوْدت بجماعاتٍ وأمم، وكم من موقفٍ مصيريٍّ تم تداركه بفضل معلومةٍ صحيحةٍ حُصِّلَت في الوقت المناسب!.. وطبيعة ناقل المعلومة جزء مهم من اعتمادها أو تجاهلها.. من استثمارها أو رَدِّها وتجاهلها:
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ) (الحجرات:6).
إنه التحرّي الصادق الأمين، للتثبّت من المعلومة، قبل بناء الموقف عليها واتخاذ القرار المناسب بشأنها، كي لا يقع الندم، والندم هنا هو نتيجة من نتائج ظلم الناس.. وإيقاع الظلم بالناس هو نتيجة لتصرّفٍ أرعن متسرّع، لا يدع المجال للتثبّت من المعلومة والتحقّق من إيمان ناقلها وصدقه وتقواه وولائه .. فهل نتعلّم ونتّعظ ونفعل وننفّذ أمر الله عز وجل؟!..
الحذر من إذاعة الأخبار وترديد الإشاعات: مبدأ قرآنيّ آخر
لأنّ إشاعة الأمن في صفٍ متيقّظٍ حَذِر، ستنتهي به إلى التراخي والغفْلة عن العدوّ المتربّص.. وكذلك إشاعة الخوف في صفٍ آمن، يمكن أن تُحدث فيه إرباكاتٍ وردّات فعلٍ غير محسوبة.. فما الحلّ؟!..
الحلّ إلهيّ من عند الله عزّ وجلّ، أنزله من فوق سبع سماواتٍ قرآناً طاهراً عظيماً صادقاً كريماً:
(وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلاً) (النساء:83). فالحلّ هو: ردّ الأمور إلى أولي الأمر القادرين على تحليلها واستنباط خفاياها ومراميها، ثم اتخاذ القرار المناسب بشأنها، وبذلك يبقى الصفّ آمناً مُطمئناً، مَحمياً بعقول أبنائه وسواعدهم وإيمانهم!..
القرآن الكريم والمفهوم الحقيقيّ للأمن
إنّ تحقيق الاستقرار والسكينة، والأمن من المكاره، والطمأنينة والحماية، هو المعنى الحقيقي للأمن في القرآن الكريم:
(الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ) (الأنعام:82).
فالأمن هو ثمرة للإيمان الخالص النقيّ، إنه أمن النفس وأمن المجتمع وأمن الصفّ والثورة وأمن الأمة المسلمة.. النقيّ من الشوائب المختلفة، شوائب النفس أو شوائب بنيان هذا الصفّ، والأمن نعمة من الله لا يحظى بها إلا المؤمنون الصادقون، الذين يعبدون الله وحده، ويعملون للوصول إلى تحقيق العبودية المطلقة لله سبحانه بين البشر .. كل البشر:
(فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ) (قريش: 3 و4).
فيا ربّ كنْ معنا، وآمِن خَوْفَنا، وانصُرْنا على عدوّنا، وانصُر مَنْ نَصَرَنا، واخذُل مَنْ خَذَلَنا، واجعلنا من عبادِكَ المؤمنين الصادقين، العاملين بهدي كتابك الكريم وسُنّة عبدك ونبيّك ورسولك محمدٍ صلى الله عليه وسلم.
أمنُ الثورة
الأمن والقرآن الكريم (3)
(تأصيل شرعيّ)
نستمر في هذه الحلقة أيضاً، بتلاوة بعض نصوص القرآن الكريم (بعينٍ أمنية)، لتوضيح بعض الأسس والمفاهيم الأمنية الواردة في دستور الإسلام العظيم، وهو كلام الله عزّ وجلّ، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، ونستعرض فيما يأتي بعض القصص القرآنيّ الذي يؤكد على أهمية العمل الأمنيّ في حماية الثورة والدعوة الإسلامية وأبنائها المؤمنين المخلصين الصادقين، وحماية الأمة المسلمة من عدوّها المتربّص بها!..
* * *
أصحاب الكهف: عِظاتٌ أمنيةٌ.. وقصةٌ تتكرّر كل يوم
الصراع بين الحق والباطل متعدد الوجوه، فأهل الحق والدعوة الربانية مُستَهْدَفونَ على مدار الساعة، وأهل الباطل والطغيان في كل حينٍ يتربّصون بأبناء الدعوة الإسلامية، يرومون النيل منهم والقضاء على دعوتهم، بالقضاء عليهم.
مَنْ هم أولئك الفتية، الذين تميّزوا عن قومهم الذين لفّهم الضلال والظلم والظلام من كل جانب؟!..
(.. إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدىً) (الكهف: من الآية 13).
إنهم حملة اللواء إذاً، لواء الإيمان، في وجه الظلم والطغيان الصادر عن أولئك الجبارين الذين حكموا بغير ما أنزل الله، فَضَلّوا وأضلّوا، وتحكّموا بمصائر الناس الذين تحوّلوا إلى عبيدٍ لهم.. لكن أولئك الفتية الصادقين ثاروا على الظلم والقهر، واستطاعوا بحنكتهم وعقولهم النيّرة أن يتدبّروا أمر حماية أنفسهم، لحماية دعوتهم وإيمانهم، فماذا فعلوا؟!..
(إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَداً) (الكهف:10).. إنّه اللجوء إلى المكان (الآمن)، وقبل ذلك، الإيمان الصادق بالله عزّ وجلّ، وتسخير النفس في سبيل دعوته، فبعد اتخاذ كل أسباب (الحماية والأمن)، واستكمال شروط التوكّل على الله سبحانه وتعالى.. لجأوا إليه:
(ربّنا آتِنا مِنْ لَدُنْكَ رحمةً، وهيّء لنا مِنْ أمرِنا رَشَداً).
فهم يعلمون ببصيرة إيمانهم أنّ الحماية والأمن لا يُطلَبان إلا من الذي يملكهما، فلجأوا إليه وحده، وطلبوهما منه وحده!..
بعد كل ذلك.. بماذا قابلهم ربهم العزيز القدير؟!..
(وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ ..) (الكهف: من الآية 14).. أي قوّيناهم بالصبر على هجر الأهل والأوطان، لأنهم فعلوا ما عليهم فعله ضمن حدود القدرة البشرية، فأمددناهم بالقدرة الإلهية، حمايةً، ورعايةً، وأمناً، ورشداً، ونصرة!..
هذه الخطة (الأمنية) لم تأتِ من فراغ، إنما كانت ثمرة بحثٍ وحوارٍ بين الفتية، الذين بذلوا أنفسهم في سبيل الله.. إلى أن توصّلوا إلى الحل الأمثل، والقرار الحكيم:
(وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقاً) (الكهف:16).. ولأنهم كانوا مع الله، ويعيشون لدعوتهم، تيقّنوا أنّ الله عزّ وجلّ هو الذي سيحفظهم، ويُعمي عنهم أعين الجبارين وأنصارهم:
(.. ينْشُر لكُم ربُّكُم من رحمتِهِ، ويهيّء لكُم من أمرِكُم مِرْفَقاً).
فالله وحده (أولاً وآخراً) هو الذي يسهّل الأمور، وهو الذي ييسّرها، وهو الذي يحمي ويصون، فَبِقَدَرِهِ وقُدْرَتِهِ يسير كل شيءٍ في هذا الكون!..
ونام الفتية في مأواهم الجديد (الكهف) مئات السنين:
(فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً) (الكهف:11).
ثم أيقظهم الله جلّ وعلا.. وبعد أن أيقظهم، هل تغيّرت حالة (الحذر) في نفوسهم بعد مضي كل تلكم السنين الطويلة؟!..
يخبرنا الله عزّ وجلّ في كتابه العظيم، أنّ هاجس (الأمن) و(حماية النفس والجماعة والدعوة) لم يتغيّر في نفوسهم، على الرغم من مرور كل تلك المدّة الطويلة!.. فقد مرت تسعٌ وثلاث مئةٍ من السنين، من غير أن يُكشَفوا أو يُكشَف مكانهم وأمرهم، وفي هذا دلالة عظيمة على حكمتهم وحُسنِ تخطيطهم (الأمنيّ) في حماية أنفسهم وحماية دعوتهم، طوال تلك السنون!..
(وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ..).. (.. قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَاماً فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً) (الكهف: من الآية 19).
إنّه (الحذر)، و(الحيطة)، و اتخاذ أسباب (الحماية) بكل حزمٍ وصرامة، مع الاستمرار والعمل الدؤوب على تحقيق (أمن) الدعوة من كل مكروه، بذكاءٍ ودهاءٍ لا بد منهما لكل من يريد أن يسيرَ في ركب الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى!.. وقد جاءت الكلمات الشريفة في غاية الدقة والدلالة المباشرة، على الحالة الأمنية التي لا تقبل التهاون أو الاسترخاء:
(.. وليتلطّف)!..
أي ليدقق النظر حتى لا يُعرَف وتُعرَف شخصيته! ثم: (.. ولا يُشعِرَنَّ بكُم أحداً)!.. أي لا يدع أحداً من الناس كائناً من كان، أن يعلم بمكانكم، فيكشفه، ثم يكشفكم، ومن بعد ذلك يقع الخطر الأكيد!.. وما هو هذا الخطر الأكيد؟!..
(إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ..)!..
(الكهف: من الآية 20) .. نعم، هذه هي حال الطواغيت الجبارين في كل زمانٍ ومكان.. فإن اطّلعوا عليكم، وعلموا بمكانكم وإيمانكم، وبدعوتكم.. فلا سبيل عندهم، ولا وسيلة لديهم، إلا القتل: (يرجُموكُم)!.. أو.. أو ماذا؟!
(.. أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذاً أَبَداً)!.. (الكهف: من الآية 20).. إنه الحل الآخر المرّ لديهم (الطواغيت)، وهو أن يجبروكم على العودة إلى دينهم وكُفرهم، بعد كل تلك السنين من الصبر والجهاد والتضحية والمعاناة في سبيل الله عزّ وجلّ، وفي سبيل الدعوة التي آمنتم بها وأكرمكم الله بحمل لوائها، وبذلك كله ستخسرون الآخرة، بعد أن خسرتم الدنيا!.. فماذا أنتم فاعلون؟!..
لا خيار إذاً.. إما الاستمرار في طريق الدعوة حتى تحقيق الأهداف المرجوّة، مع اتخاذ كل الأسباب (الأمنية)، التي تحمي هذه الدعوة ورجالاتها ومجاهديها.. وإما العودة إلى حياة الكفر ودين الطواغيت الظالمين، وإلى مَنهج الأرباب المزيَّفين، وحياة الذلّ في الدنيا.. ثم إلى عذاب الله وسخطه وعقابه في الآخرة.. فما أعظم العبرة، وما أبلغ الدرس!..
- يتبع إن شاء الله.
وسوم: العدد 1006