تساؤلات آثمة حول المنطقة وسكانها وتراثهم وعاداتهم

فتح مونديال قطر 2022 عيون الغرب أكثر على منطقة الخليج والشرق الأوسط وشمال إفريقيا، على الصورة النمطية عن كونها مسرحا خصبا للحروب والأزمات والإرهاب والتخلّف، وأُضاف فضولا سلبيا وتساؤلات آثمة حول المنطقة وسكانها وتراثهم وعاداتهم الضاربة في التاريخ.

اللافت أن النظرة الغربية المرتبطة بمونديال قطر تكاد تنطلق من العدم، على الرغم من أن علاقة هذه المنطقة بأوروبا أولًا، ثم الولايات المتحدة لاحقا، عميقة بحكم الماضي التجاري والاستعماري بعده، ثم العلاقات الاقتصادية والأمنية. لكن عندما تستمع للنقاشات في وسائل الإعلام الأوروبية يُخيّل إليك أنهم يتحدثون عن كوكب آخر يكتشفون سكانه لأول مرة.

من أكثر العناوين التي شغلت النقاش العام في الغرب، قضايا المثلية الجنسية. من كل هموم المنطقة ومشاكلها وثرائها وأحلام سكانها وطموحاتهم، توقف أمر بعض الغربيين عند المثلية الجنسية.

لو ناقشوا الموضوع مرة أو اثنتين أو ثلاثا ومضوا إلى قضايا أخرى، كان الأمر سيبدو مقبولا. لكن أن يُختزل كل شيء في المثلية الجنسية دون غيرها، فهذا دليل على نوايا ناقصة وغير بريئة. أن يحشر مسؤولون سياسيون ورياضيون ولاعبون أنفسهم بقوة في هذا الموضوع دون غيره، علامة على رغبة في الإساءة وافتعال مشاكل وأزمات.

هدف محركي هذا النقاش في أوروبا تنصيب أنفسهم أسيادا يمتلكون حق تلقين الآخرين دروسا ومواعظ. ومنطلقهم أن هذه المنطقة متخلفة مقارنة بهم وليست مختلفة عنهم. هذا الحكم الجاهز الراسخ في أذهانهم سلفًا أنهى كل نقاش. منطقة متخلفة يعني أنها تثير الشفقة وتستحق مساعدتهم للخروج من ظلمتها. بينما النظرة إليها على أنها مختلفة كانت ستتطلب الاحترام والتفهم ومراعاة خصوصياتها.

ما يرفض «الأسياد» التصريح به علنا أن موضوع المثلية الجنسية «تابو» حتى في المجتمعات الغربية. مخطئ من يعتقد أن النقاش في المثلية الجنسية مفتوح يُطرَق بحرية وبلا قيود في أي مكان. لولا التشريعات الصارمة والقمع المقنن الذي يمنع مناقشة الأمر إلا في اتجاه التفهم والتضامن والتعاطف، لسمعنا من الغربيين عن المثلية الجنسية أسوأ مما نسمع عنها في مجتمعاتنا. عشت في الغرب زمنا طويلا يكفيني لإبداء هذا الرأي.

مشكلة الغرب «معنا» في هذه القضايا ليست وليدة اليوم. عندما فشل في الوصول إلينا بلغته، قرر مخاطبتنا بلغتنا. يكفي أن يتابع المرء مضمون القنوات التلفزية الغربية الناطقة بالعربية التي أُطلقت في العشرين سنة الماضية، ليقف على تلك النظرة العرجاء المحكومة بصورة نمطية عن هذه المنطقة «المتخلفة والمتعصبة التي تكره الآخر والباحثة عمَن يخلّصها»، وفق أحكامهم.

دراسة محتوى سريعة لبرامج هذه القنوات ستكشف بسهولة أن نسبة لا يُستهان بها مما تبث تتمحور حول المثلية والعلاقات الجنسية والمرأة. أسوأ من ذلك أن النقاشات تنطلق كلها من الصورة النمطية ذاتها عن أن المأساة الوحيدة لهذه المنطقة هي جسد المرأة والحرمان الجنسي، وأن تحريرها من هذا الكبت سيفتح عليها أبواب الازدهار والرقي.

يحزنني أن بعض مضمون قناة «فرانس 24» الفرنسية عديم الاحترام للمشاهد. برنامج «في فلك الممنوع» لا يمكن مشاهدته مع أفراد العائلة. من الصعب التصديق أنه ينشر الوعي والثقافة النفسية والجنسية. هدفه، أدرك أصحابه ذلك أم لم يدركوا، التقليل من ما تبقى من حياء بين الناس تحت غطاء التوعية والتثقيف. (ما جدوى أن يبث حلقة مدتها ساعة تلفزيونية في بداية المساء عن قضايا حساسة؟ لقد عشت نصف عمري في الغرب ولم أشاهد يوما برنامجا تلفزيونيا يناقش مثل هذا الموضوع، دعك من توقيت بثه). ومن الصعب التصديق أنه حر يُبث من عاصمة الحرية، كما يدعي شعار أصحابه. هذه مجرد أكذوبة لن نصدّقها.

مصيبة هذا البرنامج أنه يُبث في وقت المشاهدة الكبرى.. الخامسة أو السادسة مساءً بتوقيت دول المغرب العربي. أشك أن جهة ضبط وتنظيم البث التلفزيوني (ARCOM) ستقبل ببث البرنامج في مثل هذا التوقيت لو كان موجها للجمهور الفرنسي باللغة الفرنسية.

لا تختلف «دوتشي فيللا عربي» الألمانية في بعض برامجها عن «فرانس 24». أحد مذيعي هذه القناة لا موضوع له في الشاشة غير المثلية الجنسية وتعدد الزوجات!

قناة الحرة الأمريكية تحاول عبثا ركوب الموجة، لكنها فشلت مثلما فشلت في مجالات أخرى منذ يومها الأول. لا غرابة بعد هذا أن يكون تأثير هذه القنوات أقرب إلى العدم.

لا أحد ينكر وجود مشاكل جنسية ونفسية كبيرة في المنطقة العربية. هذا جزء من طبيعة مجتمعات شابة تغلي في طور التكوين والتحوّل. لكن من المعيب أن تهبّ فئة من الناس لاختزال كل مآسي المنطقة في المرأة والجنس والمثلية!

قبل أن يفكر هؤلاء في تحرير الآخرين من مآسيهم الجنسية عليهم أن يتحرروا أولا من صورهم النمطية وتبعيتهم العمياء لنسق ثقافي غربي سام ومتعجرف.

لحسن الحظ أن في الغرب عقولا هادئة ومتزنة يمكن العثور عليها في تعليقات القراء على التقارير والمقالات الصحافية. هناك، حتى في الصحف الشعبية الصفراء، ستتكرر أمام عينيك عبارات من قبيل: علينا أن نتعلم احترام ثقافات الآخرين عندما ندخل بيوتهم.

علينا أن ندرك أن الناس أشكال وأنواع مختلفة إلى حد التناقض. لماذا نريد أن نجعل العالم مثلنا ونحن لسنا أفضل مَن فيه؟

وسوم: العدد 1008