العروبة.. فازت بكأس العالم
بدون مبالغة، يمكننا القول إن الفائز الحقيقي من مونديال كأس العالم لكرة القدم في دورته القطرية، هو الهوية العربية بجذورها الإسلامية، وإن قطر، وهي دولة صغيرة المساحة عظيمة التأثير استطاعت أن تحفر بمفردها في وجدان من يتسيدون هذا العالم، حقيقة أن هناك أمة تضرب جذورها في عمق التاريخ، تسكن حيزا جغرافيا يمتد عبر قارتين، لها هى أيضا مساهمات كبيرة في ميراث حضارة هذا الكوكب.
الأداء القطري في تنظيم هذا المونديال العالمي الفريد الذي يقام لأول مرة في تاريخه في دولة عربية أو مسلمة، جعل العالم الحر لا ينبهر فقط بأداء الفرق والمنتخبات وما قدمته من مفاجآت غير متوقعة، ولكن ينبهر أيضا بمعرفة قيم حضارية مختلفة ولكنها أكثر سموا ورقيا.
ولأول مرة أيضا صارت نشرات الأخبار العالمية لا يقترن فيها اسم “العربي” بالأوبئة والفساد والاستبداد والحماقات والحروب والانقلابات والمؤامرات والجرائم، لكن برسائل الإبداع والتألق والتعايش المشترك المبني على الاعتزاز بالهوية.
كان يمكن لقطر أن تنحني أمام عاصفة الانتقادات التي سرت في “الميديا” الغربية وتقبل بوجود مظاهر الفجور والشذوذ التي صارت تصاحب دورات كاس العالم، وكان لديها من المبررات ما يكفي ويفيض، وهي المبررات التي كان سيتذرع بها آخرون لو أقاموا هم هذا الحدث العظيم، لكن خيرا فعلت حينما تمسكت بحضور هويتها العربية والمسلمة، فاحترمها المنصفون الغربيون، وزادت هيبتها ومكانتها في قلوب الشرقيين.
اللغة العربية
أنا لم أتشرف بالذهاب لقطر أبدًا لكن ما عرفته عنها حتى قبل كأس العالم، أنها تعتز باللغة العربية اعتزازا واضحا حتى أن معظم اللافتات في الشوارع، وكما تظهر عبر المشاهد التي تبثها الشاشات حول المونديال أغلبها مكتوبة باللغة العربية بجانبا لغات أخرى أحيانا.
هي ملحوظة من جملة ملاحظات قد تبدو بسيطة لدى البعض، لكنها في الواقع شديدة الأهمية لكون “الهوية” وفي القلب منها “اللغة والدين والعادات والتقاليد” هي محور الاشتباك والتفاهم بين الأمم على مر التاريخ.
هذا يحدث بينما نحو 8 مليارات شخص حول العالم يلتفتون الآن نحو هذا البلد، وعشرات أو ربما مئات الألاف من الوافدين الأجانب يزورونها هذه الأسابيع لحضور المهرجان، وكان يمكنها أن تتذرع بما تتذرع به غيرها بأنهم يسحقون هويتهم ولغتهم من شوارعهم من أجل تشجيع السياحة أو حتى مواكبة “المدنية والنهضة العلمية”، ثم كانت النتيجة أنه لا جاء السائحون ولا جاءت المدنية، ولكن أصبح الناس غرباء يعيشون بهويات مستعارة.
ومن أجمل ما عرفت هو أن اللغة العربية في قطر بخلاف أنه منصوص عليها في الدستور كلغة للبلاد إلا أن هناك أيضا العديد من القوانين التي تشدد على احترامها منها مثلا القانون: رقم 7 لسنة 2019 بشأن حماية اللغة العربية ودعمها في كافة الأنشطة والفعاليات والوزارات والجهات والمؤتمرات، مع معاقبة المخالفين، وفرض تدريسها في كافة المؤسسات التعليمية بالدولة.
وتلاه إطلاق “معجم الدوحة التاريخي للغة العربية”، وهو مشروع فريد عملاق معني بإنشاء معجم تاريخي يؤصل للغة العربية عبر آلاف السنين وحفظ مدلولات وتطور ألفاظها عبر التاريخ ، وكذلك مبادرة “TED بالعربي”، وهي منصة عالمية تستقطب المفكرين والباحثين والفنانين وصناع التغيير من الناطقين باللغة العربية في العالم.
من فات قديمه تاه
في القرنين الأخيرين من الزمان كان التدفق الحضاري يأتي دائما من الشمال للجنوب ومن الغرب للشرق، لكن من اللحظات الفريدة التي تحققت في هذا المونديال أن هذا التدفق عاد لطبيعته ليكون من الجنوب للشمال ومن الشرق للغرب ولو لأسابيع معدودة.
فقد كان من الممكن لقطر أن تتهرب أيضا من انتساب ثقافتها للخيمة، كما يردد الحاسدون والماكرون، ولكن حكمتها البليغة التي أذهلت منتقديها جاءت عبر تحفة معمارية لـ”استاد” على شكل خيمة، وكأنها تقول للعالم إن تلك الخيمة العربية هى إحدى مفردات التراث العربي الذي نعتز به، سكن أسلافنا فيها ومنها انبعثت النهضة لقصورالعالم أجمع بالاسلام وبالرسالة التي بشر بها راعي الغنم، في وقت كان فيه يسكن أسلاف هؤلاء الناقمين الغابات وفجوات الجبال.
كان الناقمون يتوقعون أن يجدوا القطريين وأشقائهم العرب يرتدون ملابس العراة ويحملون شارات الرينبو، ويدوسون في تلك اللحظة كل القيم الحضارية التي انبعثت من شبه الجزيرة العربية للعالم، لكن ما حدث في كثير من التفاصيل التي رافقت الحدث العالمي كانت العكس تماما.
عموما، هى أيام وينتهي المونديال وقد لا يقام ثانية في بلد عربي أو إسلامي، لكن الرسالة الثقافية التي حملتها الإجراءات المصاحبة له في هذه المرة ستمكث طويلا في وجدان الملايين من عشاق كرة القدم، وستغير بشكل جذري الصورة الذهنية عن هذه البقعة من العالم، الثقافة والتراث والدين وحتى كرة القدم.
العروبة انتصرت في مونديال قطر.
وسوم: العدد 1008