في الدفع بعدم الاختصاص ... فرار من حق التبيان، أو اعتذار لأصحاب البهتان ...!!
"الدفع بعدم الاختصاص"
وأكثر ما تسمع هذا العنوان في عالم المحاكمات، أو المماحكات في القضاء. محام يريد أن يسقط دعوى مدع، يشكك في معرفة الخصم أين ومتى وكيف يقيم دعواه، قاض يجد نفسه أما دعوى أطرافها كلهم أصحاب "أنياب"، فيهرب من الحكم فيها إلى الدفع بعدم الاختصاص. ويبقى العنوان في القانون العام له خلفيته التي تقوم على أن لكل محكمة اختصاص، وأن من واجب المدعي أو محاميه أن يعرف أين يدّعي ومتى وكيف!!
ومن عالم المحاكم أو المماحكات، انتقل هذا العنوان بكل بساطة، إلى عالم العلم والفكر والسياسة، وأصبح قول أحدنا لأخيه إذا سمعه أو رآه يعطس "يرحمكم الله" يحتاج إلى براءة اختراع أو شهادة اختصاص!!
لستُ وكيلا على الناس، ولكن يمكن أن أكون شاهدا على عصر عشته، خالطت فيه خلال ستين سنة، ألوانا وطبقات من الناس، وكان أكثر من لازمت تلميذا متعلما، ثم جليسا مؤازرا طبقات من رجال العلم والفكر من المسلمين الفقهاء والمرشدين والمربين والواعظين، وكانت مجالسهم الخاصة والعامة تشتمل على طاقات متنوعة من معارف الناس، فيتحاورون مع هذا وذاك، وما سمعت على مدى ستين عاما من كبير منهم، يرد على من اختلف معه أو عليه، بعدم الاختصاص...
كان أمثلهم طريقة يقول لمن يجالس: لا تقولوا قال الشيخ، بل قولوا أنتم ودعوا الشيخ يسمع. وكنت ترى في المجلس الواحد من مجالس القوم الفقيه والأديب والحقوقي والطبيب والمهندس ومن شدا شيئا من علم أو فن، فيتحاور الجميع، ويفيضون في الحديث، وكثيرا ما يرد بعض الناس على بعض ، وأحيانا يرد الأديب أو الطبيب أو المهندس على الفقيه ، في مسائل هي من لُباب اللُباب من مسائل الفقه، فلم أسمع فقيها على مدى ما عايشت يرد على صاحب رأي بعدم أو قلة الاختصاص..
ولو ذكرت أسماء هؤلاء الأجلّة من الفقهاء الذين عايشت لأفحمت وأفقرت – كسرت الفقار- ولكنني لا أريد هذا ولا أسعى إليه، ولا نشأت عليه..
وشأن العاقل أنه إذا سمع كلاما فيه حق قبله، وفيه بعض خلل أو عوج قومه، أو فيه باطل في موطن للتحدي أن يقذف على ظلمته نور الحق فيجليها...
وكانت في مساجد المسلمين تعقد حلقات المناظرة بين المسلمين وأتباع الملل والنحل، وبين المسلمين وأصحاب البدع، العقلي بالعقلي، والنقلي بالنقلي، ولم يكن من حق أحد أن يصادر على المطلوب – تمحيص الحق- بالدفع بعدم الاختصاص...
والدفع بعدم الاختصاص في ميادين العلم والفقه والفكر والعام والخاص هروب أولا من مناقشة القول إلى التشكيك في القائل. وكأن أحدهم يقول للناس في أي ميدان من ميادين المعرفة ليس بعشكم بل هذا عشي فاصمتوا..!!
وفي عصر شيوع المعرفة، كم نناقش في مجالس الأطباء قضايا وأبحاثا في الطب قرأناها، وكم نستجيد في حضرة الأدباء قصائد ربما يقول أحدهم في نفسه إذ يسمعها "خرّق ..خرّق" كما كان يقول الأقدمون، نفيض في أحاديث المجرات والثقوب السوداء، ونبدئ ونعيد في مضار التدخين، والجناية الطبية على تناول الأفيون أو الحشيش، ونزيد في حضور علم الفيزياء فنقارب أنيشتاين وما قاله في النسبية، ونرد على دارون وما لاحظه في أصل الأنواع..!! ولا نسمح لأحد أن يدفعنا عن كل ذلك، أو عن بعضه بعدم الاختصاص!!
وفي تاريخهم العلمي الفقهي والفكري القديم والحديث خاض أبناء أمتنا فيما بينهم الكثير من المواقع والمعارك، فما وجدنا أحدا يدفع كلام مخالفه أو خصمه بعدم الاختصاص، بل كان العلم كل العلم، أن يفصل القول عن قائله ويرد عليه في مبناه ومعناه، في لفظه وفحواه...
ولكل علم حد ومبادئ ومنهج ومعايير، ومن تجاوز وضع قوله في الميزان، إن كان أهلا لأن يعتبر صاحب قول. أو لأن ينتطح في قوله عنزان..
وعندما يقول صاحب الشبهة والأرجوفة قولا ملقا من الباطل، ويجد هذا القول عند أباعيض من الناس آذانا، فإن حق الله، ثم حق الناس فيه أن نسقط القول لأن إسقاط القول هو إسقاط غير مباشر لصاحبه، ولاسيما إذا كان صاحبُ الأرجوفة صاحبَ أراجيف، فواحدة وثانية وثالثة وسابعة وفي كل مرة نظهر عوّار ما يقول، أو ما يكتب أو ما يقرر، حتى يكون شأنه بين الناس شأن الراعي الكذاب..
أما أن تكون معركتنا مع شخص أو أشخاص، ونصادر آفاق العلم الفقه أو الفكر بقفل ومفتاح ثم ندّعي حجرا محجورا، فإن هذا جدير أن يكرسنا في أذهان العقلاء المفكرين النابهين "مجرد أدعياء" إذا قيل هاتوا حققوا لم يحققوا...
يقول أحدهم وهو أعرابي تميمي وقومه الذين نادوا سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم من وراء الحجرات:
وننكر إن شئنا على الناس قولهم ...ولا ينكرون القول حين نقول..
وإذا كنت تسمع إنسانا يقول باطلا أو زورا أو بهتانا أو جهلا ، فمن الواجب عليك إن كنت حفيا بالحق، أن تكرّ على كل ذلك عنده، بشعاع من نور الحق عندك. أن تضع أصبعك على موضع الخلل والخطل والاضطراب وتقول للناس هاهنا... لا أن تتكئ على أريكة وكلما تحدث متحدث تغمزه أنه لم يرد المورد الذي وردتَ ولعلك ما وردت إلا كدرا وطينا...!!
ثم أعود إلى هؤلاء الذين اختزعوا عنوان "عدم الاختصاص" ليردوا على بعض من انتشرت في الناس قالتهم، وأنا تابعت ما كتب أصحاب الكتب منهم، وقليلا ما قاربت فيديوهات وتسجيلات ومنشورات..
وما اطلعت عليه من هؤلاء يكفيني لأحكم أنهم ما أوتوا من قلة علم، أو قلة فقه، كما يزعم لهم من يرميهم بعدم الاختصاص. وأعتقد أن رميهم بعدم الاختصاص هو نوع من حسن الظن فيهم، وأسلوب من أساليب الدفاع عنهم، وهؤلاء الفاتنون أو الفتانون، فيما يبحثون وينبشون عن غرائب الأقوال، وشاذها وضعيفها وسقيمها ومعلولها، ثم يجعلون من كل ذلك سياقا، ومن السياق منهجا؛ للإحاطة بدين الله، والانقلاب على شريعة الله، وإضلال عباد الله ، هؤلاء مع زخم هذا الذي هم فيه ليست علتهم كما يظن العابر الساذج قلةَ علم، أو ضعفَ اختصاص، هؤلاء لهم مثلان في كتاب الله تعالى، مثلهم الأول ذلك الذي يحمل الأسفار، ومثلهم الثاني ذلك الذي إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث.
نعم ليس من قلة علم ولا من قلة فقه ولا من عدم اختصاص أوتي ابن باعوراء، فلا تعتذروا له ولا تدافعوا عنه، بل افضحوا زيفه، وصادروا زخرف قوله...
اللهم اهدنا لأحسن الأخلاق وأحسن الأفعال، وأحسن الأقوال... لا يهدي لأحسنها إلا أنت...
وسوم: العدد 1010