حان لذلك «الغضب الساطع» أن يصل!
1967-2022: خمسة وخمسين عاماً مرّت وعيوننا «ترحل» إلى القدس كل يوم، ونحن نغنّي مع فيروز أغنية الأخوين رحباني: «الغضب الساطع آتٍ، بجياد الرهبة آتٍ، وسيَهزِم وجه القوّة…». وليس هذا الكلام مجازياً في حالة كاتب هذه الأسطر وكل من كان مثله قد بلغ من العمر في عام 1967 ما أتاح له إدراك أهمية الهزيمة التاريخية التي جرى ستر خطورتها وراء مسمّى «النكسة»، وتغنّى مذّاك مع فيروز بزهرة المدائن ورأى في صعود الكفاح المسلح الفلسطيني رأس حربة ثورة إقليمية ظافرة لا محال في مخيلته.
والحال أن «وجه القوة» الصهيوني ما زال يكشّر عن أنيابه، بل تصاعدت غطرسته إلى حدّ فاق كل ما شهدناه خلال العقود المنصرمة. فقد بلغت الصهيونية عريانها الكامل مع حكومة نتنياهو وبن غفير، بعد أن خلعت تدريجياً ثياب «الإنسانية» و«الحضارة» التي ارتدتها تاريخياً احتذاءً بنفاق الاستعمار الأوروبي الذي سارت في ركابه. وها أن العنصري الفاشي بن غفير يدشّن عام 2023 مرتدياً حلّته الوزارية المستحدثة ليقلّد سلفه أرييل شارون في سلوك النهج الذي أوصل جزّار صبرا وشاتيلا إلى رئاسة الوزراء.
كان شارون قد تعمّد أن يستفزّ الفلسطينيين باقتحام الحرَم الشريف في 28 أيلول/ سبتمبر 2000، محاطاً بحراسة مشدّدة حاز عليها بوصفه وزيراً سابقاً ورئيساً لحزب الليكود، بعد أن أزاح من هذا المنصب الحزبي منافسه بنيامين نتنياهو. وقد زايد شارون على رئيس «حزب العمل» إيهود باراك، الذي كان يرأس الحكومة الصهيونية آنذاك، مدركاً أن هذا الأخير لن يتجاسر على منعه من الاقتحام. هكذا استطاع شارون تفجير الغضب الفلسطيني بما تسبّب بمواجهة عنيفة، أطلقت «انتفاضة الأقصى» التي انتهز مجرم الحرب الصهيوني تسعيرها لمشاعر الذعر والحقد لدى اليهود الإسرائيليين كي يفوز فوزاً كاسحاً بانتخابات الكنيست في شباط/ فبراير 2001 ويتسلّم رئاسة الحكومة الصهيونية.
«وجه القوة» الصهيوني ما زال يكشّر عن أنيابه، بل تصاعدت غطرسته إلى حدّ فاق كل ما شهدناه خلال العقود المنصرمة. فقد بلغت الصهيونية عريانها الكامل مع حكومة نتنياهو وبن غفير
ومن الواضح أن بن غفير أراد تكرار الخطة ذاتها، بعد أن تحوّل من «متطرّف» في العرف الصهيوني إلى وزير للأمن القومي، ونعم بالتالي بحراسة الأجهزة الأمنية لاستفزازه بدل أن تحول الأجهزة ذاتها دون قيامه بالاستفزاز. وقد أدرك بن غفير أن نتنياهو لن يستطيع أن يقف حجر عثرة في سبيله، وهو يخطط للحلول محله في رئاسة الحكومة. فمن بن غوريون إلى بيغن ومنه إلى شارون ومن ثم نتنياهو، تسلك الصهيونية مساراً تصعيدياً يشكّل بن غفير ذروته الطبيعية، وهو ما يسعى وراء تحقيقه.
بيد أن بلوغ الصهيونية حقيقتها العارية بالحكومة الجديدة وما تفتحه من آفاق، إنما يُدخل النضال الفلسطيني والصراع العربي-الصهيوني في حقبة تاريخية جديدة بالغة الخطورة، لم يعد فيها مجالٌ لهذيان «سلام الشجعان» وغيرها من سِرب «السلام العادل»، ولم يعد فيها أمام شعب فلسطين من خيار سوى استخدام أنجع أساليب الكفاح التي اختبرها في تاريخ نضاله الطويل، جامعاً بين الانتفاضة الشعبية العارمة على غرار انتفاضة عام 1988 والمقاومة المسلًحة الذكيّة للعنف الصهيوني، أي تلك المقاومة التي لا تفسح مجالاً أمام العدو الصهيوني كي يفرض على الفلسطينيين نوع المواجهة الذي يبلغ فيه أقصى تفوّقه، ألا وهي المواجهة العسكرية، بل تحفّز النضال الجماهيري الذي يبلغ فيه الشعب الفلسطيني أقصى قدرته.
هذا وتبدو الظروف الدولية اليوم أفضل مما كانت عليه في عام 1988، عندما واجهت الانتفاضة الفلسطينية حكومة صهيونية ائتلافية جمعت الليكود و«حزب العمل» كانت حائزة على رضى العرّاب الأمريكي. فالحكومة الجديدة هي الأكثر تنفيراً للأمريكيين والأوروبيين في تاريخ الحكومات الصهيونية، وقد بلغت معها الصورة الدولية للدولة الصهيونية أسوأ أحوالها. هذا الأمر يوفّر للنضال الفلسطيني فرصة لكسب المزيد من تعاطف شعوب العالم، بما فيها شعوب البلدان الغربية، هي فرصة أفضل مما في أي وقت مضى، شرط عدم تضييعها بارتكاب أعمال مسلّحة طائشة من نوع إطلاق الصواريخ وسواها.
علاوة على ذلك، يتيح الوضع الجديد إضعاف الخرق التاريخي الذي تمكّنت الصهيونية من تحقيقه في الجبهة العربية، حيث تبدو معالم القلق لدى حكومات التطبيع ذاتها، على غرار ما أعرب عنه ملك الأردن. فلم يجرؤ على الترحيب بحكومة أقصى اليمين الصهيوني سوى حكم أقصى اليمين العربي القائم في أبو ظبي، الذي بذلك كشف عن عمق احتقاره للشعب الفلسطيني. أما الشعوب العربية برمّتها، فقد بلغ احتقانها درجة قصوى بحيث بات يجوز تأمّل عودتها إلى التضامن الجماهيري الفعّال مع النضال الفلسطيني على غرار ما شهدته السنوات التي تلت هزيمة عام 1967. وقد حان لذلك «الغضب الساطع» أن يصل بعد خمسة وخمسين عاماً من التغنّي بإتيانه!
وسوم: العدد 1013