لونٌ من الشجاعة
أن تخوض المعارك، وتحمل سلاحك بيدك، وروحَك على راحتِك، ولا تبالي: أوَقعتَ على الموت أم وقع الموت عليك... هو لونٌ عالٍ من ألوان الشجاعة.
وأن تقول للظالم: إنك ظالم، وتقوم إلى سلطان فتأمُرَه وتنهاه وتعرِّض نفسك للقتل... فهو لون نادر من ألوان الشجاعة، وإذا قُتلت بسبب ذلك فأنت سيد الشهداء.
وأن تبادر عن السؤال عمّا غمُض عليك في كلام محدّثك، وأن تناقش فيما أشكل عليك، وأن تعرضَ رأيك وإن خالف رأي من حولك من الناس... فهي الشجاعة الأدبية الطيبة.
لكنّ ثمة لوناً للشجاعة ننساه، أو نغفُل عن أهميته، قد يدخل في ألوان الشجاعة الأدبية، بل يستحق أن يُفرد في لون مميز من ألوانها... إنه الاعتراف بالخطأ.
تحتلف وجهات نظرنا حول أمور كثيرة في الحياة، أمور فقهية، أو سياسية، أو فكرية، أو أمور تتعلق بالتعامل اليومي بين الزوجين أو الجارين أو الشريكين، أو الرئيس والمرؤوس... ولدى الحوار فيما اختلفا فيه تتّضح لأحدهما نقاطٌ كان قد أخطأ فيها، لكنْ يكبر في صدره أن يُقِرّ بخطئه ويتراجع عنه، بل يركب رأسه، ويصرّ على موقفه، عناداً منه، وتحرّجاً من أن يعترف أنه مخطئ!.
وفي الغالب يكون لدى كل من الطرفين بعض أخطاء، لكن امتناع أي منهما عن الاعتراف بخطئه يعطي ذريعة لصاحبه أن يمتنع كذلك عن هذا الاعتراف.
وتتفاقم المشكلة، ويتحوّل الاختلاف إلى خلاف وخصومة، وقد تتغير القلوب، وتمتلئ بالإحَن الصدور!.
تبدأ القضية من المسلّمات الأولى التي نؤمن بها لكننا نتجاوزها في حياتنا العملية، لغفلة أو لاتباع هوى، أو لتحقيق انتصار صغير.
فمن أولى المسلّمات أن "كل بني آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون".
ربما أعترف أنني أخطأت مع ربي سبحانه، لكنني لا أعترف أنني أخطأت مع زوجتي أو زميلي أو رئيسي أو مرؤوسي...!
لا أعترف، ليس لأني لم أخطئ فعلاً، فأنا ابن آدم الخطّاء، ولكنْ لأني أغفُل عن خطئي أو أتغافل عنه، أو أعاند كيلا أعترف به.
بداية التصحيح أن أعترف في قرارة نفسي أنني أخطأت. أخطأت مع الله تعالى مرات ومرات، وأخطأتُ مع عباد الله مرات ومرات. فإذا حصل هذا الاعتراف بحثتُ عن الطريق الصحيح لتدارك الخطأ. فإذا كان هذا الخطأ فيما بيني وبين الله تعالى كفاني أن أندم وأستغفر وأتوب، وأنقل قدميّ إلى الطريق الصحيح... وإذا كان الخطأ مع عباد الله فأنا بحاجة إلى هذا اللون النادر من الشجاعة: أن أصارح صاحبي أنني أخطأت معه: أخطأت في رأيي، أو في تصرّفي... وأن أعمل بعد ذلك على محو آثار ذلك الخطأ ما أمكن ذلك.
نعم، قد تكون هناك ظروف تجعل الاعتراف الصريح بالخطأ مَدْعاة إلى مفسدة كبيرة. لا بأس. بإمكاني عندئذ الاكتفاء بالاعتراف الضمني، وذلك بأن أنسحب من موقفي الخاطئ، وأعمل على السير في الطريق الصحيح، وربما احتاج الأمر أن أعوّض هذا الإنسان الذي أخطأت معه عن الأضرار التي أصابته نتيجة خطئي... فإن عَجَزْتُ عن ذلك فلأستغفر له!...
كثيراً ما يكون الاعتراف الصريح بالخطأ، علاجاً لمشكلة توشك أن تتفاقم وتنذر بعواقب وخيمة، كمن ينزع فتيل قنبلة قبل أن تنفجر.
والشجعان الواثقون من أنفسهم، العارفون بما يملكون من حق وصواب، هم الذي يقْدِرون على الاعتراف بالخطأ. أما الضعفاء، أصحاب البضاعة المزجاة، فإن اعترافهم بأخطائهم كإزاحة الستار عن ضعفهم وعيوبهم، وهو أمر لا يطيقونه.
ما أعظم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم! فقد حَفَلَتْ سِيَرُهم بأحداث تبيّنَ لأحدهم أنه أخطأ فيها فسارع إلى الاعتراف بخطئه، واعتذاره ممن أخطأ معه. ونحن حين نقرأ أخبارهم هذه ننسى أننا نقرأ عن أخطاء وقعت، ونجدنا مبهورين أمام عظمة هؤلاء الذي ملكوا هذه الشجاعة النادرة التي مكّنتهم من الاعتراف بالخطأ والاعتذار عنه!.
وسوم: العدد 1013