تطبيع أم تركيع؟
من أكثر المصطلحات السياسية ضبابية وخداعاً مصطلح «التطبيع» بين العرب وإسرائيل. صحيح أن المصطلح باللغة العربية الفصحى يعني «أن تجعل أمراً كان غير طبيعي يصبح طبيعياً»، لكن كما سنرى على أرض الواقع فإن المصطلح مضلل وخادع ولا يعكس مطلقاً حقيقة الأمور فيما يخص العلاقات بين العرب وإسرائيل. وقد ظهرت هذه الكلمة أول ما ظهرت بعد زيارة الرئيس المصري الراحل أنور السادات إلي القدس وبدء مفاوضات السلام بين مصر وإسرائيل، ثم لحق بها الأردن والفلسطينيون. ظاهرياً قد يبدو انتشار التطبيع نتيجة طبيعية لاتفاقيات السلام بين بعض العرب وإسرائيل، وهذا صحيح، لكن لو عرفنا أن أشهر الحروب بين إسرائيل والعرب وهي «حرب أكتوبر» أو «حرب تشرين»، كما أثبتت الأيام، لم تكن حرباً ولا انتصاراً أصلاً، بل كانت مجرد تمهيد للدخول في لعبة «التطبيع»، لتأكدنا عندئذ أن المصطلح فعلاً غير دقيق، وهو لا يعبر عن الواقع ولا عن ميزان القوى الحقيقي بين العرب من جهة وإسرائيل وداعميها الغربيين من جهة أخرى. وكي لا نبدو وكأننا نتفلسف سياسياً، لنعد إلى كلمات ثعلب الدبلوماسية الأمريكية وزير الخارجية الأمريكي الأشهر هنري كسنجر الذي لعب دوراً كبيراً في التوسط بين الإسرائيليين والعرب. قال كسنجر ما معناه: «لا يمكن التقريب بين العرب وإسرائيل إلا من خلال حرب مدروسة يحقق فيها العرب نصراً شكلياً معنوياً، لا حقيقياً، وتتعرض إسرائيل لهزيمة شكلية أيضاً لا حقيقية، فتصبح الساحة جاهزة لإبرام اتفاقيات سلام ومن ثم التطبيع المنشود» تحت شعار الانتصار الوهمي. بعبارة أخرى، فإن التطبيع يحصل عادة بين قوى متصارعة ذات إمكانيات متشابهة، فيكون السلام فيما بينها مكسباً لجميع الأطراف، لكن هل الوضع هكذا فعلاً بين العرب من جهة وإسرائيل والعالم الغربي الذي يقف وراءها ويدعمها ويرعاها بالغالي والنفيس من جهة أخرى؟ بالطبع لا، فرغم كل الكليشيهات الإعلامية والعنتريات التي كان يبديها بعض العرب ضد إسرائيل، فلم تكن سوى مجرد جعجعة بلا طحين، لأن ميزان القوى مختل أصلاً وبشكل خطير لصالح الإسرائيليين وأعوانهم الأمريكيين خاصة، وبالتالي من الخطأ تسمية التقارب بين العرب وإسرائيل بأنه تطبيع، فهو تزوير وتحريف للواقع. هل تسمي مثلاً تواصل الضعيف مع القوي تطبيعاً؟ بالطبع لا. كان يمكن أن نسميه تطبيعاً لو أن قوتين متشابهتين بالنفوذ والقوة تخلتا عن الصراع وبدأتا تتواصلان مع بعضهما البعض، فهذا لا شك تطبيع للعلاقات التي كانت غير طبيعية بين القوتين، أما أن تصف علاقة تابع ومتبوع بأنه تطبيع فهذا مجاف للواقع.
متى كان العرب يهددون إسرائيل منذ حرب احتلال فلسطين عام ألف وتسعمائة وثمانية وأربعين، فمنذ ذلك التاريخ وحتى الآن فهم مغلوب على أمرهم ليس فقط سياسياً وعسكرياً واقتصادياً، الكثير من الأنظمة العربية هي بالأصل صناعة أمريكية إسرائيلية تسير حسب التعليمات والأوامر الأمريكية الإسرائيلية قلباً وقالباً، ولا يمكن لها أن تزيح عن الخط الأمريكي المرسوم لها قيد أنملة، بما فيها الأنظمة القومجية التي ضحكت علينا لعقود بعنترياتها ضد الصهاينة ثم اكتشفنا متأخرين أن تلك الأنظمة كانت أكبر خادم للصهاينة ومنفذاً لسياساتهم في بلادنا، وخاصة النظام السوري وبقية القومجيين الذين لم تقتل عنترياتهم يوماً ذبابة كما قال نزار قباني. لا شك أنكم لاحظتم ماذا فعلوا بصدام حسين بعد أن تجرأ وضرب إسرائيل ببضعة صواريخ. ولا شك أن الحكام العرب والأنظمة العربية تمتلك بعض الذكاء وتعلمت الدرس جيداً بعد أن شاهدت صدام وهو يقف تحت حبل المشنقة. وهنا يبرز السؤال الجوهري: كيف يمكن أن نتحدث عن التطبيع مع إسرائيل في ظل هذا الوضع الذي يشبه بالضبط وضع الذئب والحمل؟ هل يمكن للخروف أن يرفض التطبيع مع الذئب؟ أم إنه أصلاً ليس له رأي في الأمر، لأن الذئب قادر أن يسحقه طبعاً بسهولة. وقد فضح رامي مخلوف ابن خال الرئيس السوري الوضع بين النظام وإسرائيل عندما قال جملته الشهيرة في بداية الثورة السورية: «أمن إسرائيل من أمن النظام». لقد اختفت فجأة العنتريات البعثية التي سمعناها على مدى عقود ضد ما كانوا يسمونه «العدو الصهيوني» وحلت محلها الحقيقة الفاقعة أن النظام البعثي المزعوم كانت مهمته الأولى والأخيرة الحفاظ على أمن إسرائيل. فما قيمة التظاهر بعد ذلك برفض التطبيع مع إسرائيل؟ هل مازال أحد يصدق حملات التشهير التي يشنها القومجيون والمقاومجيون ضد المطبعين؟ كيف يهاجمون العرب الذين يطبعون علاقاتهم مع إسرائيل، بينما كانت مهمتهم الأساسية تأمين حدود إسرائيل؟
وبالمناسبة كان من الخطأ والتزوير أن نصف اتفاق ترسيم الحدود البحرية وتقاسم الغاز بين لبنان وإسرائيل على أنه تطبيع. لم يكن تطبيعاً مطلقاً، بل كان تركيعاً مفضوحاً للبنان وميليشياته التي ترفع شعارات المقاومة. لم يحدث التطبيع أبداً. النظام اللبناني وقع على الاتفاق صاغراً ولم يحظ حتى بشرف التطبيع. وهذا ليس تحليلاً بل توصيف واقعي لما حدث، ولا ننسى طبعاً تفجير ميناء بيروت الذي كان تمهيداً لعملية التركيع فيما أسموه اتفاق «ترسيم الحدود».
وقد كان وزير المياه والري الأردني الأسبق منذر حدادين الذي طبعت بلاده علاقاتها مع تل أبيب، كان صريحاً جداً عندما سأله المذيع عن رأيه في سرقة إسرائيل للمياه الأردنية، فأجابه حدادين: «إسرائيل لا تسرق المياه الأردنية مطلقاً، ولا تحتاج أصلاً للجوء إلى أساليب السرقة، إسرائيل تغتصب كل ما تريد جهاراً نهاراً أمام أعيننا، ولا نستطيع حتى أن نشتكي أو نتذمر، فما بالك أن نمانع أو ترفع صوتنا.» وهذا الكلام الصادق ينسحب على كل العرب دون استثناء. كيف تتوقع للعرب القابعين في الحضن الأمريكي أو الفرنسي أو الأوروبي أن يواجهوا إسرائيل أو يرفضوا طلباتها؟ مجنون يحكي وعاقل يسمع.
أليس من المضحك ان تتحدث عن تطبيع مع الجهة التي تتحكم وتدعم وتحمي أصلاً الكثير من الأنظمة العربية وحكامها وسياساتها منذ عقود؟
وسوم: العدد 1014