أساليب القمع في العالم العربي
يخطئ من يظن أن تحالف قوى الثورة المضادة قد أكمل مهمته كاملة بالتصدي للثورات العربية قبل اثني عشر عاما، أو أن مهمته محدودة بالربيع العربي فحسب، أو أنه مستعد لتخفيف قبضته وتغيير أساليبه في التصدي لمحاولات التغيير الحثيثة التي ربما تراجعت ولكنها لم تنته تماما. فما شهدته الدول التي عرفت ثورات عارمة في مثل هذه الأيام من العام 2011 منذ ذلك الوقت يؤكد يقظة هذا التحالف وإصراره على المضي في مهمته غير المحدودة في أطرها أو أساليبها. فهي تسعى لمنع أي تغيير سياسي في المنطقة على مستويات عديدة: أولها منع حدوث تغيير جوهري في المنظومة السياسية العربية يؤدي إلى قيام منظومة ديمقراطية تفضي إلى تداول حقيقي للسلطة، ثانيها: الحيلولة دون وقوع خلل في موازين القوى لغير صالح الغرب بما يؤدي إلى وقف هيمنته السياسية والعسكرية والاقتصادية، وثالثها منع عودة مناخ عربي إسلامي يعيد احتضان القضية الفلسطينية ويوقف تمدد النفوذ الإسرائيلي أو وقف عجلة التطبيع، أو يدفع لحراكات شعبية واسعة ضد الصهاينة حتى حين يرتكبون أبشع الجرائم، كما حدث مؤخرا من قتل جماعي للعناصر الفلسطينية الفاعلة، رابعها: السعي لاستئصال القوى التي يعتبرها الغربيون «معادية» خصوصا الإسلامية والتحررية، وذلك باستهداف رموزها بسياسات شرسة بلا حدود، خامسها: التصدي للإسلام، في تجلياته العبادية وانتشاره المجتمعي، بالإضافة لمصاديقه في دائرة ما أسموه «الإسلام السياسي».
ومن أجل تحقيق ذلك منح تحالف قوى الثورة المضادة نفسه صلاحيات غير محدودة، وفتح حدوده على كافة أساليب القمع مهما كانت شرسة أو دموية، كما أصبح مدعوما بخبرات أمنية غربية وإسرائيلية تساهم في تثبيت خياراته ودعم وجوده في جميع الظروف.
هذه المقدمة ضرورية لاستيعاب ما حدث في الأعوام الأخيرة، بعد لملمتها ونظمها ضمن إطار واضح. بدأت مهمات تحالف قوى الثورة المضادة بعد أسابيع من اندلاع ثورات الربيع العربي في إثر حادثة «سيدي بوزيد» التي شهدت مصرع شاب استخدم حرق جسده سلاحا ضد الطغيان والاستبداد والتعدي على كرامته الشخصية. لقد كان احتراق جسد محمد بوعزيزي كافيا لإشعال ثورة غير مسبوقة في العالم العربي، يومها لم يكن التحالف المشؤوم قد تم تشكيله بعد. أما اليوم فإن أجساد عشرات الفلسطينيين التي تهشمها آلة القتل الصهيونية لا يؤدي لردة فعل على الصعيدين العربي والإسلامي. بل على العكس من ذلك، ففي غضون أقل من 24 ساعة من قتل الفلسطينيين العشرة يوم الأربعاء الماضي تم فتح أجواء دولة عربية أخرى للطيران الإسرائيلي استكمالا لمشروع التطبيع الذي تصدرته دول عربية في الفترة الاخيرة. فماذا يعني ذلك؟
يمكن القول بوجود مشروع شامل لمواجهة احتمالات نشوب أي ثورات مستقبلية على غرار ما حدث قبل اثني عشر عاما. هذا المشروع له أبعاد واسعة، ومن أهم معالمه التصدي بقبضة حديدية شرسة لرموز الحراكات الشعبية في العالم العربي. ويؤكد وجودَ هذا المشروع الشيطاني عدد من الحوادث التي وقعت خلال السنوات الأخيرة وتتواصل حتى اليوم. فما إن وصل «الإخوان المسلمون» إلى السلطة قبل عشرة أعوام (2012) عبر صناديق الاقتراع حتى تغيرت ملامح المنطقة خصوصا في الجوانب الأمنية، وبدأ وضع أسس المواجهة مع الجهات التي تتطلع للتغيير.
ففي غضون شهور من ذلك تم الإعداد لضرب الجماعة ليس بالاعتقالات العادية فحسب بل بالضربة القاضية. فجاء حصار مسجد «رابعة العدوية» في أغسطس/آب 2013 الذي استخدمت فيه القوة العسكرية بأبشع أشكالها، وأدى استخدام الذخيرة الحية لفض اعتصام أنصار مرسي في 14 أغسطس من ذلك العام إلى سقوط مئات الشهداء. وتبع ذلك استهداف أول رئيس منتخب ضمن خطة محبوكة تضمنت التلاعب بالمشاعر العامة من جهة ووسائل العنف لإرهاب معارضي مشروع الانقلاب غير المسبوق. وبعد الإطاحة بالرئيس المنتخب محمد مرسي زج به في السجن مع الآلاف من جماعته. تم ذلك ضمن خطة محبوكة تماما روعي فيها الهيمنة على الرأي العام والاستفراد بجماعة الإخوان بالاستفادة من بعض الأخطاء التي وقعت خلال حكم الرئيس مرسي. كان هناك استدراج ممنهج لرموز الجماعة حتى انتهى الأمر للتنكيل بها دون رحمة. فاعتقل مرسي وتعرض لمعاملة حاطة بالكرامة الإنسانية وحرم من حق العلاج والدواء حتى لقي ربه في زنزانته في 17 يونيو/حزيران 2019.
ما دامت صناديق الاقتراع ستؤدي إلى فوز الإسلاميين فلا حصانة لها ولا اعتراض على من يستهدف نتائجها حتى لو استخدم القوة المفرطة
اليوم يقبع رموزها في السجن وعلى رأسهم المرشد العام، محمد بديع. وقبل ثلاثة شهور رحل عن الدنيا في مهجره، نائب المرشد العام، إبراهيم منير وتم تعيين الدكتور صلاح عبد الحق خلفا له كنائب للمرشد العام.
هذا التنكيل يمثل جوهر مشروع تحالف قوى الثورة المضادة للتصدي للحركات الإسلامية والتحررية، وله مصاديق في البلدان العربية الأخرى التي شهدت حراكات مماثلة.
ومن مصر إلى تونس، التي كان الغربيون يستخدمونها كنموذج للتحول الديمقراطي المدعوم من الغرب، وهي مقولة لا يصدقها الواقع. فما إن تمخضت الانتخابات عن فوز حركة النهضة برئاسة الشيخ راشد الغنوشي حتى بدأت المؤامرات لإسقاط التجربة، واتضح استعداد الغرب للتخلي عن التجربة الوحيدة التي نجم عنها تغيير طفيف. وهنا أيضا تم الإبقاء على النظام السياسي القديم وتم الاستغناء عن رأسه ممثلا بزين العابدين بن علي. وتم الترويج لهذا «الكرم» الغربي الذي سمح بذلك. ولم تمض سوى فترة قصيرة حتى حدث الانقلاب على التجربة ونصّب قيس سعيّد رئيسا لتنفيذ بنود مشروع الانقلاب على الديمقراطية. فتمت الإطاحة بحركة النهضة، حتى بلغ الأمر بالانقلابيين شن حملة تنكيل واضطهاد لرموزها.
وها هو الشيخ راشد الغنوشي، الذي كان رئيسا للبرلمان يجرجر إلى المحاكم بتهم ملفقة من بينها «التحريض ضد الشرطة». وتواصل اعتقال معارضي الرئيس الذي تحوّل إلى ديكتاتور، ومن بينهم شيماء عيسى وعصام الشابي وجوهر بن مبارك. كما اعتقل عدد من السياسيين والقضاة ورجال الأعمال وإعلاميين مستقلين. التنكيل بلا حدود، هذا هو شعار الانقلاب على ما تبقى من نتائج الربيع العربي، وهو انقلاب يمارس الاقتلاع من الجذور استكمالا لسياسة «تجفيف المنابع». فما دامت صناديق الاقتراع ستؤدي الى فوز الإسلاميين فلا حصانة لها ولا اعتراض على من يستهدف نتائجها حتى لو استخدم القوة المفرطة. وإلا ماذا يعني استهداف الغنوشي وهو الذي قضى حياته محاولا المواءمة بين الإسلام والديمقراطية. وهنا تجدر الإشارة إلى أن هذا الرجل هو آخر رواد الصحوة الإسلامية المعاصرة ومفكريها، فقد رحل الباقون عن الدنيا كالدكتور حسن الترابي وفتحي يكن والسيد فضل الله ومحفوظ نحناح والشيخ التسخيري وسواهم.
وكانت منطقة الجزيرة العربية قد شهدت هي الأخرى، منذ العام 2017 حملة اعتقالات واسعة شملت كل من يتوقع منهم دور سياسي أو توعوي خارج إطار النظام. ولم يكن صعود محمد بن سلمان صدفة تاريخية بل كان جزءا من مشروع تحالف قوى الثورة المضادة الذي يراد له أن يكون شاملا وقاسيا وتصفويا بدون رحمة. وقد كانت قضية قتل الإعلامي جمال خاشقجي بداية تنفيذ المشروع في شبه الجزيرة العربية. وتظاهر الغرب باستنكار ما حدث، ولكن سرعان ما تخلى عن ذلك واعتبره مسألة هامشية لا تستحق أن تؤثر على مسار العلاقات والمصالح الغربية مع كبرى دول المنطقة ومصدرها الأكبر للطاقة.
وليس متوقعا حدوث انفراج أمني يفضي لإطلاق سراح رموز تيار الصحوة من أكاديميين واقتصاديين وكتاب وصحافيين وشعراء وروائيين ومفكرين في الجزيرة العربية.
بدأت الحملة باعتقال الداعيتين سلمان العودة وعوض القرني، لتنطلق بعدها حملة الاعتقالات بسرعة كبيرة وتشمل رموزا إسلامية بارزة من قبيل الأكاديمي في المعهد العالي للقضاء عبد العزيز الفوزان، وإمام الحرم المكي صالح آل طالب، والشيخ سفر الحوالي، فضلا عن ناشطين وناشطات ليبراليات.
كما اعتقلت سلطات الإمارات شخصيات علمية وأكاديمية من بينها الحقوقي أحمد منصور وناصر بن غيث فهد الهاجري ومحمود الحوسن وعمران الرضوان وعبد الواحد الشحص ومريم البلوشي وأمينة العبدولي وسواهم.
ويؤكد هذا المنحى ايضا ما جرى في البحرين، فقد انقض نظام الحكم مدعوما من الغرب، خصوصا أمريكا وبريطانيا، على رموز الحراك الشعبي واعتقلتهم منذ 12 عاما ولا يزالون يرزحون وراء القضبان وقد ناهز بعضهم السبعين من العمر كالأستاذ حسن مشيمع والأستاذ عبد الوهاب حسين. ومن بين المعتقلين السياسيين الشيخ علي سلمان، الأمين العام لجمعية الوفاق، والأكاديمي الدكتور عبد الجليل السنكيس، وجميع هؤلاء محكومون بالسجن المؤبد.
فهل هناك ما يربط بين هؤلاء؟ الأمر المؤكد انهم جميعا، على اختلاف انتماءاتهم التنظيمية عناصر ناشطة تمثل في نظر أعداء مشروع التغيير في العالم العربي، مسبحة واحدة تعبر عن وحدة الأمة وتطلعاتها النهضوية وما تهفو إليه من إصلاح سياسي وإنساني.
والواضح أيضا أن حملة التنكيل هذه المرة ليس لها حدود، بل أصبحت شاملة وقاسية تشترك فيها قوى أجنبية وفي مقدمتها «إسرائيل». فهل يكفي ذلك لمنع التغيير السياسي الذي تأخر كثيرا. تؤكد وقائع التاريخ ان القمع وسياسات الاستئصال وتجفيف المنابع، كل ذلك لا يكفي لحماية الاستبداد او القضاء على محاولات الإصلاح. فالحرية فطرة إنسانية لا يستطيع ديكتاتور مصادرتها إلى الأبد.
وسوم: العدد 1021