مسلسل معاوية: وقفة هادئة مع موقف مقتدى الصدر
من دواعي الدهشة والاستياء أيضا، أنه بينما تحصى الأمة أزماتها وكوارثها، يخرج منها من يوقظ الفتن النائمة، ليزيد الطينة بلّة كما يقولون، وتنشغل الجماهير المنكوبة عن جراحاتها بسجالات مكررة أكل عليها الدهر وشرب.
مجموعة «إم بي سي» السعودية، أعلنت قبل وقت قريب عن مسلسل يعرض في شهر رمضان، يتناول حياة الصحابي معاوية بن أبي سفيان، في خطوة مثيرة للجدل، والسبب في أنها كذلك، أن الصحابي معاوية رضي الله عنه، كان طرفا في المحنة الكبرى التي حدثت أيام الصحابة بعد مقتل عثمان بن عفان، رضي الله عنه، والتي كانت خطبا عظيما داهم الأمة بعد وفاة نبيها، صلى الله عليه وسلم. بناء على ذلك، يعتبر معاوية رضي الله عنه أحد مواطن الشقاق بين السنة والشيعة، فأهل السنة ـ وأنا منهم- يعتقدون أن عليا رضي الله عنه أفضل وأحق بالأمر من معاوية رضي الله عنه، وأن الحق كان مع علي في النزاع، فكان مجتهدا مصيبا، أما معاوية فكان مجتهدا مخطئا، ونحفظ لجميع الصحابة قدرهم من غير غلو ولا تقديس، ومن غير إجحاف أو تنقيص، وأنهم بشر يخطئون كما يصيبون، وليسوا معصومين أو مبرئين من العيوب والأخطاء، وما حدث بينهم من الفتن، فالكف والإعراض عنه أولى، وعدم الخوض فيه أجدى.
على الجانب الآخر، يكفر الشيعة معاوية بن أبي سفيان، وينتقصون منه، ويلعنونه ويسبونه، لنزاعه مع أمير المؤمنين علي رضي الله عنه.
وهذه المسائل قتلت بحثا، وصنفت فيها المجلدات والأبحاث، فلماذا تقدم مجموعة «إم بي سي» على هذه الخطوة العبثية، التي تشعل الفتنة من جديد، وتفتح المجال أمام الجدل والسجال والقدح في أصحاب النبي، صلى الله عليه وسلم، وعلى الفور أعلنت قناة «الشعائر» العراقية إنتاج فيلم عن شجاعة أبي لؤلؤة المجوسي قاتل الفاروق عمر رضي الله عنه، ردا على مسلسل معاوية. لماذا يتم إنتاج هذا العمل الذي يفتح باب النزاع على مصراعيه في وقت تتكالب الأزمات والمحن على الأمة، فلا تكاد تضع يدها على جرح حتى ينزف آخر؟! أنا أستنكر ذلك رغم أن المسلسل لم يعرض بعد، ولا أدري هل ينتصر العمل للنظرة السنية أم الشيعية؟ هل سيبرز معاوية كصحابي له فضله؟ أم كشيطان كما يراه الشيعة؟ لكنني بنيت استنكاري على أساس أنه سيؤجج نار الاختلاف في كل الأحوال، لأنه من المحال أن يتجاهل المسلسل فترة الصراع. سيكون هذا العمل حتما مصادما لمنهج الفريقين السنة والشيعة معا، فهو مصادم للشيعة، نظرا لرأيهم الحانق على معاوية، رضي الله عنه، ومصادم لمنهج السنة لأنهم يرون الكف عما شجر بين الصحابة وعدم الخوض فيه، والترحم عليهم، كما قال الإمام أحمد لما سئل عنهم (تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تُسألون عما كانوا يعملون). استوقفتني في هذا المقام، ردة فعل مقتدى الصدر زعيم التيار الصدري الشيعي العراقي المعروف، الذي أصدر بيانا استنكر فيه مثلنا إنتاج هذا المسلسل الذي يؤجج نار الطائفية. وإلى هنا أتفق جدا مع الصدر، في أنه لم يكن ينبغي إنتاج هذا المسلسل الذي يتعلق بقضية مع أنها ليست جديدة، إلا أنه لا طائل من وراء انبعاثها، سوى إحماء نيران الفرقة والشقاق. استهل الصدر بيانه بالحديث عما يُعرف عنه من نبذه الطائفية، وتمسكه بوحدة الصف الإسلامي، ولكنه على الرغم من أنه بنى اعتراضه على كوْن المسلسل يعزز الطائفية، إلا أنه تلبّس بالطائفية في بيانه هذا، وشدد الهجوم على الصحابي معاوية وكال له السباب، متجاهلا بذلك مشاعر أهل السنة، الذين يترضون على جميع صحابة النبي، فظهر الصدر كأنه يهاجم مخاوف الطائفية بالطائفية. وفي البيان اعترض الصدر على التسوية بين علي ومعاوية، رضي الله عنهما، مع أن أهل السنة يفضلون عليا على معاوية، بلا ريب، ولم يخالف في ذلك أحد من أهل السنة.
تضمن بيان الصدر مغالطات تاريخية، فهو يرى أن معاوية نازع أمير المؤمنين علي بن أبي طالب الخلافة، مع أن الثابت تاريخيا أن النزاع لم يكن على الخلافة، فمعاوية لم يطالب بالخلافة، ولم يدع لنفسه فضلا على علي بن أبي طالب، بل كان يرفض أن تتم البيعة لعلي، رضي الله عنه إلا بعد أن يقتص من قتلة عثمان باعتباره ولي الدم، فهو ابن عم عثمان رضي الله عنه، فتأول قول الله تعالى «وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوما فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورا»، فطالب بالقصاص قبل البيعة، بينما كان علي يرى أن تتم البيعة وتستقيم أمور الدولة ثم يبحثون في أمر القصاص، نظرا لأن قتلة عثمان كانوا مبثوثين في المدينة ولهم شوكة، وكان رأي معاوية هو رأي أهل الشام جميعا. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «معاوية لم يدع الخلافة؛ ولم يبايع له بها حين قاتل عليا، ولم يقاتل على أنه خليفة، ولا أنه يستحق الخلافة».
وقال ابن حزم في الفصل في الملل والأهواء والنحل: «لم ينكر معاوية قط فضل علي، واستحقاقه الخلافة، لكن اجتهاده أداه إلى أن رأى تقديم أخذ القود من قتلة عثمان – رضي الله عنه – على البيعة، ورأى نفسه أحق بطلب دم عثمان». وكان معاوية يقر بأن عليا أفضل منه، فقد ذكر الذهبي في «سير أعلام النبلاء» إنه قيل لمعاوية: أنت تنازع عليا، أم أنت مثله؟
فقال: لا والله، إني لأعلم أنه أفضل مني، وأحق بالأمر مني، ولكن ألستم تعلمون أن عثمان قتل مظلوما، وأنا ابن عمه، والطالب بدمه، فائتوه، فقولوا له، فليدفع إليّ قتلة عثمان، وأُسلم له».
ويستمر الصدر في هجومه على معاوية تعريضا عندما قال عنه «لا أشبع الله له بطنا»، وهي كلمة قالها النبي صلى الله عليه وسلم عندما أرسل عبد الله بن عباس في طلب معاوية، فرجع وقال إنه يأكل، فقال النبي (لا أشبع الله له بطنا)، وهي كلمات تجري على لسان العرب لا يراد منها ظاهرها، كقوله صلى الله عليه وسلم للصحابي معاذ (ثكلتك أمك)، فلا أدري لم أبرزها الصدر كأنها دعاء من النبي صلى الله عليه وسلم على معاوية، مع أن الثابت أنه صلى الله عليه وسلم قد دعا له: (اللَّهُمَّ اجْعَلْهُ هَادِيا مَهْدِيّا وَاهْدِ بِه)، ودعا له في موطن آخر: (اللهم علِّم معاوية الكتاب والحساب وقِهِ العذاب). ليت الصدر قد اقتصر على شجب واستنكار المسسل باعتبار أنه يفتح المجال للشقاق بين السنة والشيعة، لكنه بذلك البيان فتح الباب بالفعل، فما كاد يصدر هذا البيان حتى انهالت التعليقات وردود الأفعال بسب ولعن وتكفير معاوية بن أبي سفيان، وهو أمر قد آذى مشاعر السنة الذين يحفظون للصحابة قدرهم على تفاوته بينهم. وهذا أمر متوقع، لكن المسؤول عن ذلك هو الجهة التي أنتجت مثل هذا المسلسل وفتحت الباب أمام الشقاق والنزاع، في وقت حرج تمر به الأمة الإسلامية، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
وسوم: العدد 1021