سوريا أكبر تحدّيات "بكين"
يطرح إعلان عن احتمال عودة العلاقات الدبلوماسية بين سوريا والمملكة العربية السعودية السؤال عمّا إذا كانت بلاد الشام هي الدولة الثانية التي حظيت بالاهتمام في اتفاق بكين بين إيران والسعودية، بعد اليمن، من دون أن يعني ذلك بالضرورة أنّ هناك خريطة طريق اتّفقت عليها الرياض وطهران في شأن الوضع الشديد التعقيد في سوريا. فالمسرح السوري الذي تتحكّم به خمسة احتلالات، إيرانية وتركية وروسية وأميركية، إضافة إلى قوات التحالف ضد "داعش"، ويتعرّض لعمليات عسكرية إسرائيلية متواصلة ضدّ الوجود الإيراني، يشهد في هذه الأيام مواجهات عسكرية متفرّقة، أبرزها تبادل الجانبين الأميركي والإيراني الضربات الموضعية، في ظلّ تصعيد من طهران وأذرعها ضدّ الوجود الأميركي في سوريا، معطوف على تصعيد سياسي إيراني متنامٍ ضدّ السياسة الأميركية في لبنان على لسان قيادة حزب الله التي اعتبرت أنّ اتفاق بكين ضربة لأميركا وإسرائيل.
حوار أمنيّ وخدمات قنصليّة
بثّت "رويترز" خبر عودة العلاقات بين دمشق والرياض، وبرز إعلان وسائل إعلام سعودية أنّ المتوقّع هو عودة تبادل الخدمات القنصلية بين البلدين في موسم الحج في خطوة أولى بعد عيد الفطر في الشهر المقبل. وقد تكون دلالة هذا التوضيح أنّ استعادة العلاقات بين البلدين رسمياً ستكون دون العلاقات السياسية، وأنّ "التطبيع" يحتاج إلى حوار لمعالجة بعض القضايا المتّصلة بالحلّ السياسي للأزمة السورية. وفي هذا السياق يحتاج الأمر إلى الحوار على المستوى السياسي. وقد علم "أساس" أنّ دمشق تنتظر، حسبما تبلّغت القيادة فيها، زيارة قد يقوم بها وزير الخارجية السعودي الأمير فيصل بن فرحان آل سعود خلال شهر رمضان المبارك، لبدء هذا الحوار رسمياً، بعدما كان اقتصر على المستوى الأمني في السنوات القليلة الأخيرة، تارة بزيارات قام بها مدير مكتب الأمن الوطني في سوريا اللواء علي مملوك، وإجرائه محادثات مع نظرائه السعوديين، وفي مقدّمهم الفريق خالد الحميدان رئيس الاستخبارات العامة في المملكة، أو بزيارات قام بها رئيس المخابرات السياسية السورية اللواء حسام لوقا للرياض، إضافة إلى زيارات قام بها المسؤولون الأمنيون السعوديون لدمشق.
دور موسكو في التواصل قبل "بكين"
بعض هذه الزيارات كان بترتيب من موسكو، التي شجّعت على الدوام على استعادة العلاقات السعودية - السورية، مقابل الشكوى السعودية والعربية عموماً من هيمنة إيران على القرار في دمشق. وكانت حجّة موسكو أنّ الدول العربية التي قطعت العلاقة مع نظام الرئيس بشار الأسد بعد اندلاع الثورة السورية، ومنها السعودية، تركت فراغاً ملأته طهران ولا بدّ من العودة إلى تفعيل هذه العلاقات مع دمشق للحدّ من نفوذ طهران المشكوّ منه. كما أنّ ناشطين سوريين ومعنيين بضرورة الحدّ من نفوذ طهران في بلاد الشام، كانوا طوال السنوات الماضية يدعون دول الخليج العربي إلى العودة إلى نوع من الوجود الاقتصادي من أجل مواجهة تنامي التوظيفات الإيرانية عبر شراء العقارات والحصول على امتيازات استثمارية متعدّدة الأوجه، وحملات التشييع التي استند إليها "الحرس الثوري" في إيران لتوسيع النفوذ وخلق بيئة حاضنة للوجود العسكري الإيراني.
إذاً جهود الانفتاح السعودي والخليجي على دمشق سابقة على اتفاق بكين في العاشر من آذار بين الرياض وطهران. ومع شحّ المعلومات عن طبيعة الحوار الذي كان يجري على المستوى الأمني، فإنّ مصادر المعلومات أشارت إلى أنّه تناول موضوع دور السلطات السورية في منع تهريب المخدّرات والكبتاغون إلى المملكة ودول الخليج. وفي بعض الحالات ساعدت هذه الاتصالات في معالجة بعض القضايا الأمنية التي تهمّ الرياض، ومنها تسهيل استعادة بعض المواطنين السعوديين القلائل الذين إمّا قاتلوا مع المعارضة أو مع "داعش".
بعد اتفاق بكين تردّد أنّ اللواء لوقا زار الرياض وعقد اجتماعات مع ضباط سعوديين بحضور ضباط إيرانيين تناولت موضوع تهريب المخدّرات إلى الخليج.
المبادرة الأردنيّة وتركيز بن فرحان على اللاجئين
برز التطلّع إلى الارتقاء بهذه الجهود نحو المستوى السياسي قبل اتفاق بكين، في إطار "دبلوماسية الكوارث" التي انطلقت إثر الزلزال الذي ضرب جنوب تركيا وشمال غرب سوريا في 6 شباط الماضي وأطلق موجة من المساعدات الإنسانية لسوريا، تخلّلها إعلان الوزير بن فرحان من مؤتمر ميونيخ للأمن في شباط الماضي أنّ "العالم العربي بحاجة إلى تغيير نهجه تجاه سوريا.. والعزلة لا تجدي نفعاً". كما تحدّث عن "صياغة نهج مختلف لمعالجة قضايا اللاجئين السوريين في دول الجوار"، معتبراً ذلك "أهمّ الأهداف". ورافقت هذا التطوّرَ في الموقف السعودي زياراتٌ عربية ليست بعيدة عن التوجّه السعودي، مثل زيارة وزير الخارجية الأردني أيمن الصفدي الذي حمل مبادرة أردنية قديمة جديدة تقوم على بذل جهد عربي من أجل إحداث تقدُّم في الحلّ السياسي للأزمة السورية وفق منهجية "الخطوة مقابل خطوة". وهي تشمل قضية اللاجئين التي ركّز عليها بن فرحان.
وفق مصدر مطّلع في عمّان، تقوم المبادرة الأردنية على "انخراط عربي وسوري مباشر للتدرّج نحو حلّ الأزمة السورية وفق منهجية الخطوة مقابل خطوة، بحيث يجري التعامل مع تبعات الأزمة السورية كافّة، الإنسانية والأمنية والسياسية، بالتنسيق مع الجامعة العربية في ما يتعلّق بآليّات تنفيذ ذلك". وأوضح المصدر أنّ الجانب الأردني "ما زال في طور النقاش مع الدول العربية حول الخطوات التي يمكن أن تُطرح، وحول توقيتها وآليّة التنفيذ"، مشيراً إلى أنّ "أيّ حوار عربي سوري وفق المبادرة الأردنية يكون عن طريق وزراء الخارجية العرب، ثمّ يتدرّج تبعاً لمنهج الخطوات المتقابلة".
من ناحية أخرى لفت تركيز الوزير بن فرحان على قضية اللاجئين السوريين في دول الجوار، فمن نافل القول أنّ إعادتهم تتطلّب ترتيبات سياسية على طريق حلّ الأزمة السورية، فضلاً عن أنّها تحتاج إلى إعادة إعمار ما تهدّم، فيما الدمار كبير زاده الزلزال كارثيّة. ومن الطبيعي أن تعطي الرياض وسائر الدول العربية معضلة عودة اللاجئين أولوية، لأنّها إحدى خطوات إعادة التوازن الديمغرافي الذي اختلّ بفعل الحرب التي شنّها النظام على المناطق السنّيّة التي احتضنت المعارضة السياسية ثمّ العسكرية للنظام.
قوات عربية تضمن العودة
تردّد في هذا المجال أنّ الحوار مع الجانب السوري عرض لتدابير تشمل دخول قوات عربية المناطق التي تحتاج إلى حماية لضمان عودة آمنة لملايين اللاجئين إلى مناطقهم. ومع التكتّم على أفكار من هذا النوع، تحدّثت بعض مصادر المعلومات عن أنّ الجانب السعودي حدّد هويّة بعض هذه القوات العربية، مشيرة إلى موقف سلبي من قبل النظام حيال أفكار من هذا النوع.
إنّ مقاربة التطبيع السعودي والعربي مع النظام في دمشق، التي تحتاج إلى النظر إليها من زاويتَي العلاقات العربية - العربية واتفاق بكين، تواجه إشكاليات صعبة لا تحصى. فلإيران دورها في هذا التطبيع بعد سنوات من بناء النفوذ الذي حقّقته في الميدان السوري. وقضية عودة ثمانية ملايين من اللاجئين تختزل تلك الصعوبات، لأنّها تعني مناطق تهجير توجد فيها إيران عسكرياً وديمغرافياً عبر الميليشيات الشيعية التي استقدمتها من باكستان وأفغانستان والعراق وباتت إقامتها هناك تشبه التوطين، ولذلك سيكون لموقفها أثر في أيّ اتفاق يرافق هذا التطبيع. ومن المنظار العربي والسعودي، تُعتبر قضية العودة جوهرية، وتتطلّب، إضافة إلى الحلول الأمنيّة، حلولاً سياسية أبدى الفريق الحاكم في دمشق ممانعة لها حتى الآن، وهو ما سبّب انزعاجاً روسيّاً ممّا وصفته مصادر دبلوماسية روسيّة "عناداً شديداً" حيال مطالبة الكرملين بالعمل على الحلول السياسية وفق قرار مجلس الأمن 2254 خلال زيارة الأسد الأخيرة لروسيا في 17 آذار الجاري. فموسكو طالبته بذلك في سياق إصرارها على المصالحة التركية السورية باعتبارها عنصراً مساعداً على الحلّ السياسي للأزمة السورية، لكنّه رفض.
فهم الأسد للاتّفاق السعوديّ الإيرانيّ والموقف الأميركيّ
العوائق أمام التطبيع السعودي (والعربي) السوري والتحدّيات أمام تطبيق اتفاق بكين من زاوية انعكاسه الإيجابي على الوضع الإقليمي هي مصدر الشكوك في تجاوب طهران، واستطراداً الأسد في سوريا. إذ قال الأخير، في مقابلته مع تلفزيون "سوريا اليوم" في موسكو تعليقاً على اتفاق بكين، إنّ "السياسة السعودية أخذت منحى مختلفاً تجاه سورية منذ سنوات، وهي لم تعد تتدخّل في الشؤون الداخلية أو تدعم أيّ فصائل في سورية"، مشيراً إلى أنّ "الحديث عن أنّ العلاقة السورية - الإيرانية يجب أن تنقطع لم يعد يُثار مع سوريا منذ سنوات طويلة". يدلّ حديثه هذا على أنّ له فهماً لمبدأ الاستقرار الإقليمي يعاكس تفسير الرياض له وفق اتفاقها مع طهران. فغاية النظام الحاكم من الانفتاح العربي عليه هو الحصول على مساعدات مالية لإعادة الإعمار وعلى استثمارات عربية لمواجهة الأزمة الاقتصادية الخانقة، الأمر الذي يواجه صعوبة في غياب حلّ سياسي.
العقوبات الأميركيّة على تمويل النظام
إنّ فرضية الإقبال العربي، وتحديداً السعودي، على مساعدة سوريا اقتصادياً لتشجيع النظام على الدخول في حلول سياسية، وعلى خفض اعتماده على طهران، أمامها أيضاً عوائق تتمثّل في العقوبات الأميركية والأوروبية التي تمنع التعامل مع النظام وفق قانون قيصر، والتي تشمل التحويلات المالية لمقتضيات إعادة الإعمار في المناطق التي يسيطر عليها النظام، وطبعاً توجد فيها إيران.
مع الترحيب الأميركي باتفاق بكين على لسان الناطق باسم البيت الأبيض جون كيربي، كان هناك تشكُّك في ما إذا كانت طهران ستفي بالتزاماتها فيه. وهذا بالمفهوم الأميركي يشمل الوجود الإيراني في سوريا الذي تخوض واشنطن مواجهات ميدانية مباشرة معه منذ أيام، إضافة إلى المواجهة غير المباشرة عبر الضربات الإسرائيلية للمواقع الإيرانية.
وسوم: العدد 1025