«العدل الدولية» ومحاكمة الاحتلال الإسرائيلي
محاكمة الاحتلال الإسرائيلي في محكمة العدل الدولية مقبلة. اكتملت الملفات وقدمت المرافعات خطيا مرفقة بالوثائق، وسنرى في ربيع العام المقبل مرافعات شفوية أمام قضاة المحكمة من ثلة منتقاة من المحامين الدوليين لإثبات أن الاحتلال الإسرائيلي غير قانوني ويجب أن ينتهي ويرحل، وعلى الدول جميعها أن تتعامل مع الكيان على أنه كيان باغ وظالم وقاهر وعنصري ومنتهك لكل القوانين الدولية.
هذا لا يعني أن الكيان سيتفكك ويهزم ويرحل مع صدور الرأي القانوني، لكنها معركة قانونية يمكن الانتصار فيها بالضربة القاضية، فمعاركنا مع هذا الكيان الشرس متعددة الجوانب متشعبة المسالك متنوعة الساحات وعلينا أن ننازله في كل الميادين وكل المجالات، والقانون الدولي أحد هذه الميادين المهمة التي تعريه وتعزله وتسهل مهاجمته وسد المنافذ عليه وتصعيد سبل مقاطعته ووقف الاستثمار فيه وسحب ما هو موجود وتوسيع رقعة العقوبات عليه.
هذه معركة حامية يجب أن نكون مستعدين لها جميعا وعلينا ألا نقلل من أهميتها. إنها الخطوة، ربما ما قبل الأخيرة، لتصنيف هذا الكيان رسميا نظام فصل عنصري من قبل المجتمع الدولي ما يمهد للإطاحة به كما حصل مع نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا.
وأود في هذا المقال أن أحدّث المعلومات لدى القراء حول تطورات إحالة ملف الاحتلال إلى محكمة العدل الدولية، بعد أن واكبت الموضوع منذ بدايته وكتبت مقالين عن أهميته. وللتذكير فقد اعتمدت الجمعية العامة بتاريخ 30 ديسمبر/كانون الأول 2022، آخر يوم عمل في السنة، قرارا تاريخيا لتحويل ملف الاحتلال الإسرائيلي إلى محكمة العدل الدولية لتقديم رأي قانوني حول مسألتين: شرعية الاحتلال الإسرائيلي ومدى تعطيله لحق الفلسطينيين في تقرير المصير، وإذا ما توصلت المحكمة إلى أن الاحتلال الإسرائيلي غير شرعي إذن يجب أن ينتهي. والسؤال الثاني هو إذا كان الاحتلال غير شرعي، فما هي تبعات هذا الاحتلال على الدول الأعضاء ومنظمات الأمم المتحدة، أي كيف ستتعامل الدول والمنظمات الدولية مع احتلال غير قانوني يدمر فرصة إعطاء الشعب الواقع تحت الاحتلال حقه في تقرير المصير.
لقد نجح القرار بعد ضغوطات خرافية من قبل الولايات المتحدة والكيان الصهيوني وثلة من الدول تدور في فلكيهما، بغالبية 87 صوتا إيجابيا و26 صوتا سلبيا وتصويت 53 دولة بـ «امتناع» وغياب 37 دولة.
قام رئيس الجمعية العامة بتحويل القرار والولاية التي ينص عليها لمحكمة العدل الدولية وبالتالي انتقلت المسؤولية من الجمعية العامة للمحكمة للبت في القرار وتنفيذه حسب الأصول والقواعد المتبعة. وقسمت المحكمة العملية إلى أربعة أقسام يليها الرأي القانوني: تقديم المرافعات الخطية، مراجعة المرافعات، المرافعات الشفوية بحضور المحامين ثم قيام القضاة بدراسة الملفات والوثائق وإصدار الفتوى أو الرأي القانوني.
المرحلة الأولى – تقديم المرافعات الخطية
بدأت هذه المرحلة منذ وصل الملف إلى المحكمة وانتهت في 20 يوليو/تموز. وقد قدمت نحو 58 مرافعة مكتوبة من بينها ثلاث من الاتحاد الأفريقي والجامعة العربية ومنظمة التعاون الإسلامي. وقد ألحقت بالمرافعات وثائق داعمة للموقف الذي يتم عرضه في مرافعة تلك الدولة. الدول الخمسة الدائمة العضوية قدمت مرافعاتها وقسم كبير من الدول العربية ودول أخرى من القارات جميعها.
هذه معركة حامية يجب أن نكون مستعدين لها جميعا، وعلينا ألا نقلل من أهميتها فهي خطوة لتصنيف الكيان رسميا نظام فصل عنصري
والمرافعة يجب أن تكون محصورة في الموضوع أي شرعية الاحتلال، والآثار التي نتجت عن الاحتلال والأضرار والانتهاكات التي أدت إلى تعطيل قدرة الشعب الفلسطيني على ممارسة حقه في تقرير مصيره. قلة من الدول أخذت موقفا مؤيدا للكيان تحت حجة «عدم الاختصاص» أي أن المسألة يجب ألا تبحث في محكمة العدل الدولية. وتكاد الولايات المتحدة تنفرد بتقديم مرافعة مطولة دفاعا عن الكيان ربما أكثر من الكيان نفسه.
وتقوم المرافعة الفلسطينية التي قدمتها بعثة فلسطين لدى الأمم المتحدة بالتعاون مع مجموعة من خيرة المحامين الدوليين على ثلاثة أعمدة: الاحتلال غير قانوني. ففي القانون الدولي الاحتلال حالة مؤقتة تنتهي بانتهاء المواجهات العسكرية، وهذا الاحتلال تحول إلى احتلال دائم، وهذه النقطة مرتبطة بالعمود الثاني من المرافعة وهو ضم الأرض الواقعة تحت الاحتلال وهذا أمر لا تخفيه إسرائيل حيث أعلنت ضم القدس الشرقية رسميا عام 1980 وصوت عليها الكنيست ليصبح الضم جزءا من القانون الأساسي الذي لا يلغى إلا بتصويت ثلثي أعضاء الكنيست، وصدر على إثر ذلك قراران مهمان عن مجلس الأمن 476 و 478 (1980). والعمود الثالث هو فرض نظام الفصل العنصري على السكان الفلسطينيين، أي ممارسات وقوانين مختلفة لفئتين من الناس تعيشان بين البحر والنهر، مع التأكيد على الممارسات والقوانين التي يتعرض لها سكان الأراضي المحتلة.
وهناك فريقان يعملان للتحضير لهذه المرافعة: فريق قانوني مكون من ثمانية محامين دوليين ذوي خبرة نادرة وخاصة في المرافعات أمام محكمة العدل الدولية. وفي موازاتهم فريق سياسي فلسطيني يتكون من خيرة العقول والتجارب في المسائل الدولية. وقد أنجز الفريق مرافعة من ألف صفحة تم اختصارها وضبطها في نحو 400 صفحة مركزة ومدققة وموثقة.
المرحلة الثانية – مراجعة المرافعات من قبل الدول المشاركة
تنتهي هذه المرحلة في 25 أكتوبر/تشرين الأول المقبل والتي يسمح فيها لكل الجهات التي قدمت مرافعات أن تراجع المرافعات الأخرى جميعها وتكتب ملاحظاتها وتقدمها للمحكمة. فمن حق كل دولة أن تطلع وتقرأ وتراجع وتجادل اتفاقا أو اختلافا مع ما جاء في طرح هذه الدولة أو تلك. بعض تلك المداخلات خارج النص. لكن لا أحد يجادل ضد الحقوق الفلسطينية، ولا أحد يشكك في دور وحيادية وأهمية محكمة العدل الدولية. بعض المرافعات المؤيدة للكيان تشير إلى الاتفاقيات الثنائية بين الطرفين، ما يدل على أن هناك خواءً وخروجا عن النص، فالمسألة تتعلق باحتلال طال أمده بدأ يتحول إلى ضم أرض دائم وفرض نظام فصل عنصري على السكان. ومعظم المرافعات المكتوبة القريبة من إسرائيل تركز على النقاط الإجرائية، ويمكننا أن نقول إن الغالبية الساحقة من المرافعات تؤيد الموقف الفلسطيني. فالشهور الثلاثة المقبلة ستكون فرصة لتقديم مرافعات إضافية وردود وتوضيحات على كل ما ورد في مرافعات الآخرين.
المرحلة الثالثة – المرافعات الشفوية في المحكمة
ستطلب المحكمة من الأطراف المعنية أن يتقدموا للمحكمة لتقديم مرافعة شفوية تستمر لمدة ثلاث ساعات. وبعد مداخلة قصيرة ومقتضبة من المجموعة السياسية يأتي دور فريق الدفاع المكون من ثمانية محامين دوليين متخصصين في القانون الدولي. ونود أن نذكر منهم مايكل لينك، الذي عمل مقررا خاصا للأمم المتحدة في موضوع انتهاكات إسرائيل لحقوق الإنسان في الأراضي الفلسطينية والعربية المحتلة، والمحامي الفرنسي ألان بيليه الذي رافع أمام المحاكم الدولية وخاصة محكمة العدل الدولية أكثر من 60 مرة، وجون دوغارد المحامي المعروف من جنوب أفريقيا والذي كتب كثيرا عن نظام الفصل العنصري ودافع عن حقوق الإنسان للفلسطينيين وكان عضوا في لجنة القانون الدولي التابعة للأمم المتحدة. ومنهم بول رايكر المحامي البريطاني الذي دافع عن نيكاراغوا والساندانيستا في نفس محكمة العدل الدولية، ومنهم أميرة نجم المحامية المصرية التي تشغل منصب المستشار القانوني للاتحاد الأفريقي. وقد يأتي دور المرافعات الشفوية في الربيع المقبل.
المرحلة الرابعة والأخيرة – الرأي القانوني
هذه المرحلة من اختصاص المحكمة وقضاتها الخمسة عشر، مرحلة دراسة المرافعات والمعلومات والوثائق من قبل القضاة، والتي قد تطول أو تقصر، لكنها تنتهي عندما يتوصل القضاة إلى رأي قانوني بالإجماع أو شبه الإجماع. ففي حالة جدار الفصل العنصري صدر الرأي الاستشاري بتاريخ 9 يوليو/تموز 2004 بغالبية 14 قاضيا وامتناع القاضي الخامس عشر الأمريكي. نأمل هذه المرة أن يأخذ الرأي القانوني إجماعا، إذ كيف يمكن الدفاع عن موقف قانوني واضح حول احتلال تحول إلى احتلال دائم واستيلاء على أرض بالقوة المسلحة؟ القانون الدولي هنا واضح لا يترك فرصة للتردد والحيرة.
بقي أن نشير إلى الدور الأساسي الذي لعبته بعثة فلسطين لدى الأمم المتحدة في الإعداد لقرار الجمعية العامة منذ أكثر من خمس سنوات والتحضير لتبعاته وإعداد الوثائق والأطروحات ودعوة الخبراء القانويين المؤهلين لمحاكمة هذا الكيان الفاشي أمام العالم وإصدار موقف من أعلى محكمة قانونية في العالم. بالتأكيد ستكون محاكمة القرن، فلنستعد لما بعد إصدار الفتوى القانونية.
محاضر في مركز دراسات الشرق الأوسط في جامعة رتغرز بنيوحرسي
وسوم: العدد 1045