حقيقة الصراع في الشام وغزّة

في عام (1948) عُقِدَ لقاء بين ضابطٍ عربيٍ كبيرٍ وقع أسيراً في الحرب، وبين قائدٍ عسكريٍّ صهيونيّ.. في هذا اللقاء: [سأل الضابطُ العربيُّ مستفسراً، عن سبب عدم مهاجمة الجيش الصهيونيّ قريةَ (صور باهر) القريبة من القدس.. فأجابه القائد الصهيونيّ: لأنّ فيها قوّةً من المتطوّعين المسلمين المتعصّبين!.. الذين لا يقاتلون لتأسيس وطنٍ كما يفعل اليهود، بل يقاتلون ليستشهدوا في سبيل الله!.. وعندما سأله الضابط العربيّ عن الأمر الذي يجعل اليهود يخافون من هؤلاء إلى هذه الدرجة، أجاب القائد اليهوديّ: إنه الدين الإسلاميّ!.. ثم استدرك قائلاً: إنّ هؤلاء المتعصّبين، هم عقدة العقد في طريق السلام، الذي يجب أن نتعاون جميعاً لتحقيقه، وهم الخطر الكبير على كل جهدٍ يُبذَل لإقامة علاقاتٍ سليمةٍ بيننا وبينكم!.. إنّ أوضاعنا وأوضاعكم لن تستقرّ، حتى يزولَ هؤلاء، وتنقطع صرخاتهم المنادية بالجهاد والاستشهاد في سبيل الله، هذا المنطق الذي يخالف منطق القرن العشرين.. قرن العلم والمعرفة وهيئة الأمم والرأي العام العالميّ وحقوق الإنسان]!.. (مجلة المسلمون، العدد الأول من المجلّد الخامس، تموز 1963 ، مع الاختصار).. وفي إشارةٍ بالغة الوضوح والدلالة، يقول (إيرل بوغر)، الكاتب الصهيوني، في كتابه (العهد والسيف) الصادر في عام (1965): [إنّ المبدأ الذي قام عليه وجود إسرائيل منذ البداية، هو أنّ العرب لا بدّ أن يبادروا ذات يومٍ إلى التعاون معها، ولكي يصبح هذا التعاون ممكناً، يجب القضاء على جميع العناصر التي تغذّي شعور العداء ضد (إسرائيل) في العالم العربيّ، وهي عناصر رجعيّة، تتمثّل في رجال الدين والمشايخ]!.. وهذا ما يفسّر تماماً، حقيقة أولئك الذين لم يَدَعوا وسيلةً لقمع شعوبهم العربية والإسلامية، إلا اتّبعوها وجرّبوها، إذ لابد من القضاء على مشاعر العداء للكيان الصهيونيّ، لتمهيد كل الطرق للتعاون مع هذا الكيان، وبالتالي المحافظة عل وجوده في منطقتنا العربية والإسلامية!..

أما وحدتنا العربية والإسلامية، فهي الشرّ المستطير، الذي ينـزل بساحة مجرمي اليهود والغرب الاستعماريّ، لماذا؟!.. يقول (مورو بيرجر) في كتابه ( العالم العربيّ المعاصر): [يجب محاربة الإسلام، للحيلولة دون وحدة العرب، التي تؤدي إلى قوّتهم، لأنّ قوّة العرب تتصاحب دوماً مع قوّة الإسلام، وعزّته وانتشاره]!.. ويقول المبشّر (لورانس براون): [إذا اتحد المسلمون، أمكن أن يصبحوا لعنةً علينا وخطراً، أما إذا بقوا متفرّقين، فإنّهم يظلّون حينئذٍ بلا وزنٍ ولا تأثير.. فيجب أن يبقى العرب والمسلمون متفرّقين، ليبقوا بلا وزنٍ ولا تأثير].. (كيف هُدِمَت الخلافة، ص190).

*     *     *

كل ما عرضناه، يعلّله ويؤكّده (ييكوف بيري)، الرئيس الأسبق لـ (الشين بيت) الصهيونيّ، بقوله، تعليقاً على اندلاع (انتفاضة الأقصى في عام/ 2000م): [إنّ هذه الانتفاضة، أدّت إلى عزلة الأنظمة الحاكمة التي وقّعت معاهدات سلامٍ معنا، وهذا يقوّض أهم مقوّمات استراتيجيتنا]!.. وكذلك يفسّره الدكتور (إيلي ريخس)، المستشرق والباحث في شؤون الحركات الإسلامية، في مركز (دايان) للأبحاث، بقوله لإذاعة الجيش الصهيونيّ، تعليقاً على اندلاع (انتفاضة الأقصى) أيضاً: [كلّ نجاحٍ للإسلاميين، يمثل لنا خسارتَيْن في آنٍ معاً، مرّةً لأنّ الخوض في مواجهةٍ ذات طابعٍ دينيٍ يقودها متديّنون مسلمون، صعبة لنا، ومرّةً أخرى لأنّ نجاح الحركات الإسلامية، يعني إفلاس الأنظمة العربية في نظر الشعوب العربية، وهذا أمر لا يقلّ خطورةً عن الأول، لأننا يجب أن نكون مَعْنِيّين بأن تكون الأنظمة العربية مُقْنِعةً لشعوبها]!.. أي أن يقنعونا بِسلامهم المزعوم!..

*     *     *

تلك الحقائق تفسّر كذلك، لماذا تدعم معظم الحكومات الأوروبية والأميركية الكيانَ الصهيونيَّ، وتتجاهل جرائمه الشنيعة، بالدَّوْسِ على كلّ مبادئ الحق والحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان، التي يصدعون رؤوسنا بها، على مدار الساعة!..

أما الجنرال (داني روتشيلد)، مدير قسم الأبحاث السابق في جهاز الاستخبارات العسكرية الصهيونية، فقد قال، أثناء اشتداد (انتفاضة الأقصى)، بصريح العبارة: [ويلٌ لدولة إسرائيل، إذا سمحت للأصوليين المسلمين، أن يكونوا بمثابة الجهة التي تتطلّع إليها الجماهير العربية]!.. (السبيل الأردنية- العدد رقم/355).

*    *     *

إنّ الصراع بيننا وبين اليهود الصهاينة، ومن ورائهم الغرب الاستعماريّ، بزعامة الولايات المتحدة الأميركية.. هو صراع عَقَديّ بالدرجة الأولى.. وقد حاول المراوغون المتذاكون، أن يوهموا بعضَ قومنا، بأنّ حقيقة الصراع لا تتعدّى ترسيم الحدود، وتحديد أصحاب الممتلكات هنا وهناك، وأنّ حلّ مثل هذه الأمور ممكن، عن طريق المفاوضات والطاولات المستديرة، والكواليس.. والحلقات المفرغة!..

إنّه الجهاد، وحب الاستشهاد في سبيل الله!.. الذي حاولوا أن يشطبوه من قاموسنا، وقلوبنا، وعقولنا.. بعد أن مَسحوه (بتواطؤ الأنظمة العربية وأنظمة معظم الدول الإسلامية) من قائمة المصطلحات في مؤتمراتنا الإسلامية، وهيئاتنا الرسمية، التي حوّلت أبناء أمّتنا إلى أصنامٍ من ثلج، بعد أن أصبح الجهاد –ذروة سنام الإسلام– إرهاباً وتهمةً، يُعاقَب عليها بالسجن والإعدام!.. في عصر (رعاة البقر)!.. إنه الجهاد الذي تحرّك الشارع العربيّ والإسلاميّ للانخراط فيه، الذي حذّر منه منذ سنواتٍ (موشي آرينس)، وزير الدفاع الصهيونيّ الأسبق، بصريح العبارة: [.. ما حدث يعني انهيار قوّة الردع (الإسرائيلية) في ذهن الشارع العربيّ..]!.. (المصدر السابق)، وطبعاً انهيارها في الذهن، سيؤدي إلى انهيارها في الفعل.. والخوف هو من أن تدبّ روح الجهاد في نفوس المسلمين!.. إنه الجهاد الذي فرضه الله عزّ وجلّ على المسلمين، وجعله الوسيلة الوحيدة لصدّ العدوان وتأديب المعتدين.. إنه الجهاد الذي يجعل أمّتنا تقف بوجه الكيان المـُصَنَّع في حضن الغرب الاستعماريّ الصليبيّ.. وبوجه أميركة الصهيونية، التي شيّدت (تمثال الحرّية)، على جماجم المستضعفين والهنود الحمر وضحايا التمييز العنصريّ.. وبوجه أوروبة الصليبية التي فجّرت ثورات الحرّية، على رأسها الثورة الفرنسية التي هدمت (الباستيل)، ثم أقامت مجدها، باحتلال أوطاننا الإسلامية والعربية، التي ملأتها (باستيلاتٍ) وأنظمة حُكمٍ من نواطيرها الخونة، لقهر شعوبنا وإذلالها، ثم لقتل روح الجهاد والمقاومة في نفوسنا، لكي ينعم الكيان الصهيونيّ بالأمن والسلام الرغيد!..

*     *     *

إنه الجهاد أيها العرب.. أيها المسلمون.. الذي تجري فصوله بدقةٍ وعزّةٍ وشموخٍ على ثرى غزّة المجاهدة، وثرى سورية الشام التي تنشد الحرية والتحرّر من حُكم الخونة.. فتمتلئ قلوب الوحوش البشرية المعتدية رُعباً.. من تل أبيب إلى باريس، ومن لندن إلى واشنطن.. مروراً بكل العواصم الاستعمارية الغربية، المحكومة اليوم بالصمت المطبق والخرس والعمى، تجاه مصّاصي الدماء الصهاينة!..

[إنّما السبيلُ على الذين يَظْلِمونَ النّاسَ ويَبْغُونَ في الأرضِ بِغَيْرِ الحقّ، أولئكَ لهُم عذابٌ أليمٌ]

(الشورى آية42).

وسوم: العدد 1054