عندما تصبح استطلاعات الرأي والتقارير أدوات "لاغتصاب الجماهير"
يعتبر استطلاع الرأي من بين أهم التقنيات المستعملة للتعرف على آراء وتصرفات ومواقف "المجتمع" -بمعناه الإحصائي-المستهدف، تجاه بعض الظواهر والقضايا المجتمعية، السياسية منها والاقتصادية أو حتى التجارية التي تشغل بَالَ المسؤولين، سواء كانوا ينتمون لنظام معين من قبيل الحكومات والأحزاب والشركات...، أو فرادى كالعلماء والمفكرين والباحثين على اختلاف مشاربهم واختصاصاتهم، وذلك بهدف استجماع المعطيات الإحصائية التي تمكنهم من اتخاذ القرارات الملائمة، والمناسبة لما يمليه تحليل تلك النتائج. وحتى تكون نتائج الاستطلاع موضوعية وذات مصداقية، يتعين الالتزام في إجرائه بمجموعة من الشروط، من بينها: حُسن اختيار العينة الممثلة للمجتمع، حسن ومنهجية تصميم استمارات الاستطلاع، الدقة في العمل الميداني، والدقة في التفريغ والجدولة والتحليل والتفسير لما يتم رصده من آراء.
من بين المجالات التي تُعنى بها استطلاعات الرأي المجالين السياسي والاجتماعي، بحيث يُتَوسَّل بها إلى التعرف على نظرة المواطنين تجاه الأحزاب السياسية على سبيل المثال، أو على تمثلهم لظاهرة أو قضية اجتماعية معينة، كما هو الشأن بالنسبة لقضية تعديل مدونة الأحوال الشخصية التي تستأثر في الوقت الراهن بحيز كبير من النقاش المجتمعي عندنا في المغرب.
وفي الوقت الذي تعكف فيه اللجنة الملكية على استقبال "جمعيات المجتمع المدني" للتعرف على آرائها واقتراحاتها في الموضوع، طالعتنا إحدى الجرائد الموالية للطرح العلماني بتاريخ 21 نونبر 2023، بمقال تحت عنوان: " استطلاع: حوالي نصف العزاب والمطلقين بالمغرب ضد تجريم العلاقات الرضائية"، هدفه التأثير على أشغال هذه اللجنة بالاستقواء بما يسمى الرأي العام. ولقد كان لهذا الاستطلاع أن يمر دون أن يلفت الانتباه، لولا تعميمه للنسب المئوية المدلى بها بخصوص موقف العينة المستجوبة على كل المغاربة، بدءا بالعنوان، مرورا بعدد من النسب، من مثل نسبة 48 في المائة من النساء المغربيات يعارضن تجريم العلاقات الرضائية، وموافقة 57 في المائة منهن على إعادة مراجعة المقتضيات المتعلقة بالإرث...
ويكفي عدم الإشارة في هذا الاستطلاع إلى المجتمع المعني بالدراسة ومدى عشوائية العينة المدروسة أي مدى تمثيلها له، وإلى طريقة جمع المعطيات ميدانيا، حتى لا يبقى لهذه النسب معنى سوى الإيحاء بهتانا وزورا بوجود رأي عام مساند لمطالب تلك الجمعيات، التي تعمل كل ما في وسعها حتى تكون المدونة المرتقبة على مقاسها، وهو ما عبر عنه Pierre Bourdieu بخصوص استعمال أداة سبر الآراء بصفة عامة، بقوله بأن "الوظيفة الأساسية التي وُجدت من أجلها هي ترسيخ وَهْمٍ زائف يُروِّج لوجود مقولة اسمها الرأي العام، يُعبِّر بشكل موضوعي عن مختلف آراء الأفراد."في الوقت الذي يَعتَبر فيه بأنه لا يوجد رأي عام، على الأقل بالصيغة التي يصورها أولئك الذين يريدون إثبات وجوده" وإنما "هناك أراء مُشَكَّلة، ومجنَّدة، ومجموعات ضغط مجندة حول نظام مصالح مصاغة صياغة صريحة"
وفي نفس السياق ورد في نفس الجريدة مقال تحت عنوان: "تقرير: 59 % من المغربيات يتعرضن للضرب والجرح ... و38 % للاغتصاب الزوجي" أورد فيه صاحبه مجموعة من الأرقام والنسب الخاصة بالنساء ضحايا العنف، مستندا في ذلك إلى معطيات "فيديرالية رابطة حقوق النساء". والملاحظ في هذا التقرير كذلك هو عدم انسجام هذه المعطيات فيما بينها، وعدم قابليتها للاستيعاب من قبل كل من يرفض التخلي عن عقله بالمجان، فعلى سبيل المثال لا الحصر، ورد في المقال أن العدد الإجمالي للوافدات على مراكز "شبكة نساء متضامنات" و " شبكة الرابطة إنجاد ضد عنف النوع" بلغ ما مجموعه 9474 امرأة ضحايا العنف، في نفس الوقت الذي يعلن فيه بأن العنف النفسي يتصدر عدد حالات العنف المصرح بها، حيث تم تسجيل 20353 حالة، بنسبة 46.2 في المائة...وذلك حسب التقرير الأخير للفيدرالية حول "العنف المبني على النوع". فكيف يمكن لعدد نساء ضحايا العنف النفسي أن يكون أكبر من عدد ضحايا العنف بصفة عامة، وكيف تم حساب النسبة المرفقة بهذا العدد، وباقي النسب التي تم الإدلاء بها في المقال؟ الإجابة الوحيدة الممكنة على هذا النوع من الأسئلة هي استغباء الجماهير أو ما أطلق عليه Pierre Bourdieu مصطلح "اغتصاب الجماهير Le Viol des Foules" الذي قصد به تلاعب القادة السياسيين والقوى السياسية وقادة الرأي العام بالجماهير وبالحشود، لتمرير رسائل معينة وأجندة معينة لصناعة الرأي العام الذي يتناغم ويتناسق مع برامجهم.
إن الخطأ الذي وقع فيه هؤلاء هو عدم تمييزهم بين الدين والسياسة حتى وإن كانوا يطالبون بفصلهما، ومن ثم فهم يتصورون أن عمل اللجنة المكلفة من قبل جلالة الملك، لا يعدو أن يكون بمثابة عمل لجنة الإشراف على الانتخابات، المتمثل في فرز الأصوات والإعلان عن النتائج، لذلك تجدهم يعملون على استقطاب أكبر عدد من الأصوات للضغط عليها قصد تضمين المدونة مطالبها، بينما الأمر ليس كذلك تماما، لأنه يتعلق بمسائل شرعية لا يحق لأحد المساس بها خارج ضابطين أساسين هما على التوالي: كون الإسلام دين الدولة، وتصريح أمير المؤمنين بأنه لا يحل حراما ولا يحرم حلالا ، مما يجعل من استدعاء "جمعيات المجتمع المدني" للإدلاء بآراء معروفة مسبقا، وسيلة لضياع الوقت والجهد، ومسرحيات موجهة للاستهلاك من قبل الأطراف الخارجية التي تقف وراءها لا غير. أما المطلوب فيكمن في استشارة أهل الاختصاص من رجال الدين والقانون وكل من تتوفر فيه شروط الشورى بمفهومها الشرعي، أي كل من له القدرة على الإتيان بقيمة مضافة دون أن تتعارض مع ثوابت الأمة.
وسوم: العدد 1060