الفلسطينيون من المسافة صفر… دور غزة على مسرح العالم
شهدت مدينة لندن مظاهرات حاشدة وغير مسبوقة، احتجاجاً على العدوان الإسرائيلي على غزة، وفي مدن أوروبية وأمريكية كثيرة كان الآلاف يخرجون لرفض الممارسات الإسرائيلية، وتحت وطأة التحركات الشعبية، تغيرت المواقف السياسية لبعض العواصم المؤثرة، ومن أهمها باريس، هذه إشارات جيدة بالنسبة للفلسطينيين، فقطاع كبير من الناس العاديين في العالم، خارج تصنيفات اليمين واليسار التقليدية، ليسوا مستعدين لمشاهدة الموت المجاني بهذه الطريقة.
تحررت الشعوب الأوروبية من عقدة الذنب تجاه اليهود، وهو الأمر الذي لم تدركه بيروقراطية الدولة في العديد من البلدان، والتصنيفات الشطرنجية بين أبيض وأسود، وعدو وصديق لم تعد قائمة بالمعنى التقليدي، صحيح أن الخوارزميات تمنح مستخدمي مواقع التواصل ما يريدونه من مواد، وتقدم لهم أهدافاً جميلة عندما تعرف اهتمامهم بكرة القدم، أو موديلات السيارات الجديدة إذا بحثوا عن سيارة على شبكة الإنترنت، ولكن ذلك لا يمنع أن تفلت لمواجهتهم مادة قصيرة تشرح الأوضاع في فلسطين، وفي حال لم تدفعهم لتغيير مواقفهم، فهي بالتأكيد ستشكك في كثير من الروايات المستقرة.
في غزة رأى العالم الفلسطينيين من المسافة صفر، شعباً عملياً ومحباً للحياة ومتمسكاً بها، شعبا متسامحاً وفقاً لشهادات الأسيرات المسنات التي أحرجت دولة الكيان وحلفاءها
هذه وقائع جديدة لا يمكن أن يفهمها، أو يعترف بها، رجل مثل بنيامين نتنياهو الذي يحاول أن يعيد إنتاج نبوءة إشعياء من التوراة ويقدمها لجمهوره السياسي، والمفارقة العميقة في دولة إسرائيل بوصفها مشروعاً تكمن في تقديم نفسها لأدوار مستقبلية، بينما تغرق في التاريخ حتى أذنيها، التاريخ الذي لا يعني الجمهور العالمي الجديد، والذي سيشاهد خلال الأيام المقبلة فيلماً عن نابليون بونابرت، وسيخرج من السينما لا ليناقش انتصاراته العسكرية أو أخطاءه الاستراتيجية، بل سينصب اهتمامه على مقارنة أداء خواكين فينيكس بطل الفيلم في شخصية نابليون مع دوره الكبير السابق في شخصية الجوكر.
الحياة الحديثة لا تحتمل الحكايات الدرامية الطويلة، والقصص المركبة التي قدمتها التوراة، ويستند إليها اليمين الإسرائيلي، فالأجيال الجديدة تدفع الضريبة من أجل الخدمات، ولا يعنيها مجد الدولة، لأن الدولة ليست إلا مجموعة من المؤسسات الخدمية، وتوسع الميديا العالمية جعل من فكرة افتراض الذات في مكان الآخر أكثر صلاحية من الأفكار الاستعمارية القديمة، التي قدمت ذلك الآخر بأنه صنف أدنى لا ينتمي للمجموعة الإنسانية نفسها، وهذه الفكرة تطورت من نضالات الجماعات المضطهدة في الغرب مثل السود واليهود أنفسهم، بما يعني أن فكرة حيونة مجموعة إنسانية التي حملتها إسرائيل في البداية، لم تعد فكرة مقبولة إنسانياً. قدمت غزة حكايتها للعالم، واكتشف أن الفلسطينيين لديهم مؤونة كبيرة من الإعلاميين، الذين يمكنهم أن ينقلوا الصورة من المسافة صفر، وأن يتحدثوا بلغة معاصرة وحديثة، وبأكثر من لغة، ووجدوا في القطاع المحاصر أطفالاً وشباباً صحيح أنهم لا يشبهون الأوروبيين أو الأمريكيين، ولكنهم لا يشبهون الصورة التي قدمت للتطرف الإسلامي مع «القاعدة» و»داعش»، وفوق ذلك، وجدوا قطاعاً طبياً يحول ما كانوا يشاهدونه في مسلسلات مثل غرفة الطوارئ إلى مجرد عمل روتيني يقدمه أطباء وممرضات غزة، أطباء يتمنى أي أوروبي أو كندي أن يجدهم عند مراجعته لأي مستشفى في بلاده، وجدوا شعباً حقيقياً ينفي أسطورة أرض بلا شعب، شعباً محاصراً استطاع تدبر العيش وتحدياته بصورة لم تحققها شعوب أخرى امتلكت الاستقرار والموارد. تمكن الفلسطينيون في لحظة غزة من تجاوز التاريخ والارتقاء فوقه، وتركوا الرجال المتخمين بسلطته ويعيدون إنتاجها في أوهامهم، لأن جانباً كبيراً من الشرعية في المنطقة العربية يعتمد على التاريخ ويستغرق فيه، ولا يقدم شيئاً من أجل المستقبل، وحماس نفسها ليست سوى جزء من خلفية المشهد، جزء فاعل ولكنه في الخلفية، ووراءه صور خاملة وباهتة حاولت أن تختزل الشعب في الصورة التي تناسبها، ومع فشلها وعقمها، لم يجد الفلسطينيون إلا الاعتماد على أنفسهم، مقاربة الحياة على طريقتهم الخاصة، كما وصفها منير فاشة في أعماله المتعددة التي رصدت جانباً من ديناميكيات المقاومة والبقاء التي مارسها الفلسطينيون في الانتفاضة الأولى والمراحل اللاحقة، وفي غزة الصغيرة والمحاصرة كانت هذه الديناميكية متسارعة ومتصلة، وتتصف بالقدرة على الإبداع في التعامل مع المحدودية في الموارد، وفي لحظة غزة رأى العالم الفلسطينيين من المسافة صفر للمرة الأولى، شعباً عملياً ومحباً للحياة ومتمسكاً بها، شعباً متسامحاً وفقاً لشهادات الأسيرات المسنات التي أحرجت دولة الكيان وحلفاءها في العالم.
غزة ليست بؤرة عدوانية أو أرضاً للبرابرة، وأي سلام حقيقي لن يبدأ إلا من غزة ومن تجربتها ولحظتها، ولن يبدأ وفق الشروط السابقة التي قامت على أساس الاستغراق الصهيوني التاريخي مقابل الشرعية المأزومة في الدول العربية، لا مكان للسلام التلفيقي، الذي يرضي جميع الأطراف السياسية ويتجاهل الشعوب وحقوقها ورؤاها وطبائعها ومستقبلها. غزة حركة تصحيح في التاريخ العربي بما قدمته من براغماتية سياسية في خطابها وواقعية حقيقية في مقارباتها، ومن استغلال أمثل للموارد الشحيحة حتى تمكنت من مواجهة أسطورة الجيش الإسرائيلي وكشفت عيوبه التي تعيد إنتاج المجتمع الإسرائيلي وتكشف عجزه عن الاندماج في المستقبل بأي صورة لائقة، ليظهر رهاناً خاسراً في جوهره لا يفعل شيئاً أكثر من استثمار التاريخ ومخاوفه.
وسوم: العدد 1060