هل من قبيل الصدفة أن تجتمع وتتعدد في مجتمعنا مفاسد لم تكن من قبل ؟؟؟
الفساد والإفساد نقيض الصلاح والإصلاح ، ومعلوم أن كل منهما ينفي الآخر ضرورة ، ولا يجتمعان أبدا ، حيث يقتضي وجود أحدهما غياب الآخر، ويمثل لذلك بالوجود والعدم . وكل شيء أو حال يكون إما صالحا أو فاسدا ، ولا وجود لمنزلة ثالثة بينهما . ومعلوم أن لكل من الصلاح والفساد مظاهر تدل عليهما ، وقد تكون محدودة في الزمان والمكان ، وقد تتعدد ، وتكون وراء ها أسباب ومسببات . وفي الذكر الحكيم أن الأصل في الأشياء والأحوال أن تكون صالحة ، وتلك سنة الخالق سبحانه في الوجود وفي الخلق ، وأن الفساد يعتريها من جهة الخلق لقوله عز من قائل : (( ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس )) ، ويكون ذلك بترك الطاعات ، وارتكاب المعاصي . ولقد اختلف المفسرون في المقصود بالبر والبحر ، فقيل هما الحيزان المعروفان فوق سطح المعمور ، وقيل هما القرى والحواضر بعضها يكون جزائر أو أشباه جزائر محاطة بالبحار أو الأنهار . ومما يؤكد أن الفساد ليس أصلا في الأرض بل هو طارىء عليها ،قوله تعالى : (( ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها )) .
وقد يكثر الفساد في الأرض بتعدد مظاهره، كما جاء ذكر ذلك في محكم التنزيل إذ قال الله تعالى في وصف عاد، وثمود، وفرعون : (( الذين طغوا في البلاد فأكثروا فيها الفساد فصبّ عليهم ربك سوط عذاب إن ربك بالمرصاد )) ، والواضح من كلام الله تعالى أن كثرة الفساد، يعقبها لا محالة عذابه ، ويكون سريعا سرعة الصبيب ، وسرعة السوط ، كالريح العاتية المدمرة ، أو الرجف المدمدم ، أو الغرق ...
ولقد جاء في الذكر الحكيم أن الفساد ،يكون عبارة عن سعي منحرف يتسبب في هلاك الحرث والنسل حيث قال الله تعالى : (( وإذا تولّى سعى في الأرض ليفسد فيها ، ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد )) ، ويكون هذا السعي عن قصد، وسبق إصرار ، ويكون فساده إما أقوال تقال أو أفعال تؤتى ، أوهي خليط من هذه وتلك .
ومعلوم أن الناس عادة ينزعجون من حلول مظهر من مظاهر الفساد فيهم يكون سببا في تغيير يحصل من تغيير نحو الأسوإ في حياتهم التي اعتادوا عليها ، ويكون غير مرغوب فيه ، ولكنهم مع تراخي الزمن قد يألفونه ويطبعون معه خصوصا إذا كان منهم تراخ في مواجهته ، فيصير فيهم دأبا وعادة . وقد تشيع وتكثر فيهم مظاهر أخرى للفساد ، فتتراكم ، وتفتر الهمم عن صدها ، و يكون ذلك إيذانا بحلول عقاب من الله عز وجل بسبب فتور تلك الهمم .
وقد تتعدد مظاهر الفساد في مجتمع ما ، ولا يكون ذلك محض صدفة ، بل يكون مدبرا عن قصد ، وسبق إصرار من أجل إشاعة أكبر مساحة ممكنة للفساد . وقد لا يخطر ببال كثير من الناس أن مظاهر الفساد إذا تعددت تكون بينها صلة أو يكون بينها خيط رابط ، ولكن عند إنعام النظر أو إمعانه ،أو إطالة الفكر ، ينكشف ما خفي من صلة رابطة بينها .
وبناء على هذا يخطر على بال كل واحد منا في مجتمعنا السؤال التالي : هل من قبيل الصدفة أن تجتمع وتتعدد فيه مفاسد لم تكن شائعة فينا من قبل ؟
وأول مظهر فساد، وأخطره على الإطلاق ،استهداف النواة الصلبة للمجتمع، وهي الأسرة من خلال استهداف عمودها الفقري الذي هو المرأة التي يتوقف على وجودها وجود الأسرة ، ويتوقف على وجود هذه الأخيرة وجود المجتمع . إن الذين خططوا لاستهداف مجتمعنا ،جعلوا طريقهم إلى ذلك استهداف الأسرة ، وجعلوا طريقهم إلى هذه الأخيرة استهداف المرأة ، فنفخوا نفخا ماكرا فيما سموه مظلمتها ، وتكوّن لدينا منهم لوبي أو جماعة ضغط مطالبة بتعديل مدونة الأسرة تعديلا يستهدف نصوصا دينية ينسب إليها افتراء وبهتانا وزورا الظلم والحيف في حق المرأة ، وهو افتراء على الله عز وجل . ومن خلال هذا الافتراء يتأكد أن المقصود هو هذا الشرع تحديدا من أجل نقل مجتمعنا من مرجعيته الإسلامية إلى مرجعة علمانية وافدة مكشوفة . والذين يسوقّون لهذه الفرية الفاضحة يجاهرون بعلمانيتهم ، ولا يخفونها ، ويدعون بشكل جلي إلى ما يسمونه مجتمعا مدنيا أي لا دينيا أو علمانيا ،وقد جعلوا هذا مطلبهم الأول والأساسي الذي به تتغير أحوالنا في جميع مجالات الحياة .
ومن تداعيات إفساد مجتمعنا، ظاهرة تفكك الأسر بشيوع الطلاق بشكل رهيب غير مسبوق ، وبنسب مئوية تدعو إلى شدة القلق ، علما بأن زيادة هذه النسبة تعني تداعي لبنات صرح المجتمع لبنة تلو الأخرى ، وهو ما ينذر بانهياره الشامل . وفي الوقت الذي ترتفع فيه وتيرة آفة الطلاق ، وهو أبغض الحلال عند الله عز وجل ، وكفى بذلك شرا ، يجتهد بعض المفسدين في الدفع نجو تكريسه ، وتوسيع هوته عن طريق تضمين مدونة الأسرة المرتقبة ما يشجع عليه ويغري به أو لنقل بلغة شرعنا ما يخبّب الزيجات على الأزواج ، وهو أسوأ ما تبرأ ممن يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم . ومن مكر وخبث من تخفي نواياهم في استهداف نواة المجتمع ،أنهم يتظاهرون بمحاربتهم آفة الطلاق عن طريق المطالبة بتضخيم واجباته من متع ونفقات ، وبتشديد العقوبات المترتبة عن الامتناع أو العجز عن أدائها ، علما بأن تضخيمها أصبح أمرا يغري الزيجات بالطلاق ، ويعرض الأسر للتفكك ، والأبناء للضياع ، و استقرار المجتمع للانهيار . ومن شدة مكر وخبث من يتسببون في تفشي آفة الطلاق بشكل غير مسبوق، أنهم هم أنفسهم ما ينادون برفع التجريم عن الفواحش مما يسمونه علاقات جنسية رضائية أو علاقات جنسية مثلية ،والتي تستهدف بالدرجة الأولى ضحايا الطلاق أزواجا وزيجات من خلال صرفهم عن إشباع غريزة متأصلة في البشر بطرق غير مشروعة ، عوض طريقة ضبطها شرع الله تعالى يكون بها تصريفها التصريف الطبيعي . ولمزيد من شدة خبث ومكر مفسدي النواة الصلبة في المجتمع، أنهم يحاربون الحلول التي وضعها الشرع لصيانة هذه النواة ، ومنها التعديد على سبيل المثال الذي قد تدعو إليه الضرورة الملحة ، والذي إذا سلمنا جدلا بما يدعيه عليه خصومه من أضرار تلحق النساءـ وهو محض افتراء ـ فلن تبلغ أضراره أضرار آفة الطلاق ، ولا آفة الفواحش التي ينادون برفع التجريم عنها ، وبكل وقاحة وصفاقة وجوه .
ومن مظاهر الفساد أيضا، السماح بزراعة القنب الهندي تحت ذريعة استعماله للتطبيب، مع تغييب مضاره الناجمة عن سوء استعماله الذي يتسبب في تدمير العقول ، وتحت ذريعة مساهمته في تطوير اقتصاد البلاد دون استحضار موقف الشرع المحرم للمسكرات والمخدرات والمفترات باعتبار مفاسدها . ومع انتشار هذه الزراعة ، تنتشر آفة التخدير الخطيرة في المجتمع ، والتي لها صلة مباشرة بخراب البيوت ، وتفكك الأسرالتي بانهيارها ينهار المجتمع . أليست المخدرات نوعا من أنواع السلاح الذي تستعمله الأمم في الصراعات والحروب بينها ؟
ومن مظاهر الفساد أيضا التشبث بفرنسة المناهج والبرامج الدراسية ، في وقت تراهن فيه الأمم على اللغات الرائدة عالميا من أجل نقلات علمية جادة رهانا على اللحاق بالركب الحضاري المتقدم أو تنكب على لغاتها الأم لتلحق بها . لقد جربنا الرهان على الفرنسية في بلادنا لعقود ، ولا زال قطار تطورها عندنا جاثما في محطته لا يبارح مكانه ، لأن سكة الفرنسية لا تلائمه ، وهو في انتظار مستمر لسكة من السكك تناسبه كما هو الحال عند أمم مثلنا وضعية ، فتحركت قاطراتها . ولا يبالي المتعصبون للفرنسية سواء منهم المرتزقة المسخرون لتكريسها أو الغافلون عن حمولتها الخطيرة التي لا تمت بصلة إلى ما تنص عليه مرجعياتنا وهويتنا الإسلامية ، وقد شاع في مجتمعنا جيل متشبع بمرجعيتها وهويتها ، وهو الجيل المسخر لطمس معالم مرجعيتنا وهويتنا ، وهو الذي نقابله في الواجهة قبل أن نتصدى لأصحاب المرجعية الفرنسية العلمانية .أو ليست منظومتنا التربوية في حال من الفشل الذريع ، يرثى لها، والسر وراء ذلك هو المغامرة بالرهان الفاشل على فرنسة تعليمنا ؟ وما هذه الضجة التي وسعت هوة الخلاف بين صناع القرار التربوي وبين رجال ونساء التربية ؟ أليس خيار الفرنسية مما جعلها تتسع ؟ أليس الحذو حذو فرنسا تشريعا في المجال التربوي سببا مباشرا في كل هذه الاضرابات والتظاهرات التي عطلت قطار الدراسة ، وقد أوشك أو كاد الإعلان عن سنة بيضاء ، والضحايا هم فلذات الأكباد ورأسمال الوطن ؟ ومتى كان الاقتصاد في الانفاق على المنظومات التربوية يعتبر تدبيرا موفقا عند الأمم المراهنة عليها كرافعة تطور وتقدم ؟ وهل ترتقي الأمم إلا بالإنفاق عليها بسخاء ؟ وكم نسبة الانفاق عليها، وعلى البحث العلمي عندنا قياسا بما تنفقه غيرنا من الأمم ؟ وعند التأمل نجد أن فساد المنظومة التربوية عندنا، له صلة مباشرة بفساد منظومتنا الاجتماعية ، فهي من قوادح زناده ، أليس نسبة الأمية، والجهل ، والبطالة فينا في ازدياد وارتفاع ؟
ومن مظاهر الفساد فينا تطبيع مع كيان عنصري دموي أقدمنا عليه ، وأحدث في لحمتنا شرخا بين من رحبوا به وهم قلة إذا ما قيست بسواد أعظم ترجمته المظاهرات الأخيرة الرافضة له خصوصا بعدما شهد العالم بأسره بدموية هذا الكيان الإجرامي ، وهو ما لا يستطيع إنكاره اليوم ولا بالأمس من يدافعون عن التطبيع معه ، وقد صار بعضهم يزايد على من يرفضونه بالوطنية ، ويتهمونهم بالوقوف مع أعداء وحدتنا الترابية بالرغم ما بين قدسية هذه الوحدة وبين معرة التطبيع من بون شاسع في هذا الظرف بالذات الذي يرتكب فيه هذا الكيان العنصري الدموي جرائم حرب فظيعة غير مسبوقة ضد المدنيين خصوصا الأطفال، والنساء، والعجزة، والمرضى ، وهي جرائم إبادة جماعية ، وكل ذلك كان كافيا للتراجع عن هذا التطبيع ليكون مساهمة في الضغط على هذا الكيان المارق ، ونصرة للأشقاء الضحايا . وعند التأمل نجد أن آفة التطبيع لها صلة مباشرة بسوء أحوالنا الاقتصادية . فهل بلغ غلاء المعيشة عندنا مثل هذا المبلغ من قبل ، وهل استباح الكيان المارق خيراتنا مثل ما يستبيحه اليوم بشهادة من لهم دراية وعلم بما يستبحه مما تناقلته وسائل التواصل الاجتماعي عندنا ؟
هذه أمهات مظاهر الفساد في مجتمعنا، وهي وثيقة الصلة فيما بينها ، لم تجتمع صدفة بل خطط لها تخطيطا لحاجة في نفس يعقوب . وما لم نتدارك أمرنا برشد ، فإن سنة الله عز وجل عند كثرة الفساد معلومة ، ولنا عبرة في أمم خلت قد قصها علينا الذكر الحكيم ، ونسأل المولى جلت قدرته ألا ينزل بنا عقابا بما كسبت أيدينا.
وسوم: العدد 1061