شيوخ أم حاخامات؟
سورة التوبة في القرآن الكريم تسمى بـ»الفاضحة»، لأنها فضحت المنافقين وصفاتهم ومسالكهم، وهكذا غزة فاضحة، كشفت الأقنعة وميزت الصفوف وعينت المتخندقين. من هذه الفئات التي فضحتها الحرب على غزة، ثلة من المنتسبين إلى علماء الإسلام زورا وبهتانا، فالعالم حتى يستحق هذا اللقب بحق، يلزمه أن يكون علمه على هدى لا ضلالة، فلا يستغل الدين لتصفية حسابات، أو لتحقيق مآرب دنيوية، أو للتزلف إلى السلاطين، لأنه مُبلّغ عن الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، متقلد مسؤولية كبيرة على عاتقه في إزالة الجهل ونصرة الحق. هذه الثلة اتخذت موقفا غريبا تجاه الأحداث الدائرة في فلسطين، مبنية على مهاجمة المقاومة، وتحميلها المسؤولية عن الدمار الذي يلحقه العدوان الصهيوني بالقطاع.
وفي الوقت الذي يهاجمون فيه المقاومة، ويعملون على شيطنتها، لا تسمع لهم حسا إزاء قتل ما يزيد عن عشرين ألفا من أهل غزة، وتدمير أكثر من نصف منازل القطاع، ولا يهاجمون الصهاينة ولا ينددون بوحشيتهم، كل ما يشغلهم هو النيل من حماس. خطورة هذه الفئة، أنهم يتحدثون باسم الدين، ويستدلون بنصوص قرآنية ونبوية في غير موضعها، يلبسون بها على البسطاء، الذين ليس لهم قسط من علوم الشريعة، يمكّنهم من فرز أقوال أدعياء العلم هؤلاء. الأمر الذي يطنطنون حوله غالبا، هو رمي حركة حماس بالإفساد والمسؤولية عن عشرات الآلاف من القتلى المدنيين في القطاع، واتهامها بالجهل بفقه الواقع، وعدم مراعاة المصالح والمفاسد، ويعنون أن المقاومة هي التي استفزت الصهاينة لضرب غزة، ولذلك تتحمل الحركة مسؤولية الدماء. من أدلتهم التي يدلسون بها على الناس، قوله تبارك وتعالى «وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ» (البقرة: 195).
التحرير لابد له من ضريبة، والدفاع عن الأرض هو دفاع عن الدين الذي تمثله، والتضحية من أجل هذه الغاية أمر محمود شرعا وعرفا ومنطقا
ولست أقوم في هذا المقام بدور العالم الناقد لآراء الآخرين، لكن الأمر يتعلق بقضية هي أخطر وأهم قضايا الأمة، يتم ضربها في الصميم من خلال الفتاوى، ولذلك سأعرض للقارئ التفسير الصحيح لهذه الآية كما ذكره صحابة النبي صلى الله عليه وسلم، والذين هم أكثر دراية به، إذ كان القرآن يتنزل بينهم. ورد في ابن كثير عَنْ أَسْلَمَ أَبِي عِمْرَانَ قَالَ: حَمَلَ رَجُلٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ بِالْقُسْطَنْطِينِيَّةِ عَلَى صَفِّ الْعَدُوِّ حَتَّى خَرَقه، وَمَعَنَا أَبُو أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيُّ، فَقَالَ نَاسٌ: أَلْقَى بِيَدِهِ إِلَى التَّهْلُكَةِ. فَقَالَ أَبُو أَيُّوبَ: نَحْنُ أَعْلَمُ بِهَذِهِ الْآيَةِ إِنَّمَا نَزَلَتْ فِينَا، صَحِبْنَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وشَهِدنا مَعَهُ الْمُشَاهِدَ وَنَصَرْنَاهُ، فَلَمَّا فَشَا الْإِسْلَامُ وَظَهَرَ، اجْتَمَعْنَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ نَجِيَا، فَقُلْنَا: قَدْ أَكْرَمَنَا اللَّهُ بِصُحْبَةِ نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ونَصْرِه، حَتَّى فَشَا الْإِسْلَامُ وَكَثُرَ أهلُه، وَكُنَّا قَدْ آثَرْنَاهُ عَلَى الْأَهْلِينَ وَالْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ، وَقَدْ وَضَعَتِ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا، فَنَرْجِعُ إِلَى أَهْلِينَا وَأَوْلَادِنَا فَنُقِيمُ فِيهِمَا. فَنَزَلَ فِينَا: (وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ) فَكَانَتِ التَّهْلُكَةُ: الْإِقَامَةِ فِي الْأَهْلِ وَالْمَالِ وَتَرْكِ الْجِهَادِ. إذن التهلكة ليست هي الإقدام والشجاعة لطرد المحتل الغاصب الجائر، وأبدا لم يكن فارق القوة مانعا من منازلة الغزاة المعتدين، والتاريخ يشهد على ذلك، ففي معركة بدر وأحد كان عدد المشركين ثلاثة أضعاف عدد المسلمين، وفي معركة مؤتة واجه جيش قوامه ثلاثة آلاف مقاتل، مئتي ألف من الروم، وقطعا هؤلاء الأدعياء يحفظون الآية الكريمة: «كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَة كَثِيرَة بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ» (البقرة: 249). يستدل أدعياء العلم في هجومهم على المقاومة، بقوله صلى الله عليه وسلم: (لزوال الدنيا أهون على الله من قتل رجل مسلم). وهذا يراد به بالإجماع قتله ظلما، فالجرم يقع على قاتله، فهل المقاومة ظلمت نفسها وأهلها بالدفاع عن أرض فلسطين والنضال لطرد المحتل الغاصب؟ يحيلنا هذا السؤال إلى الحديث النبوي الشريف (من قتل دون دينه فهو شهيد ومن قتل دون دمه فهو شهيد ومن قتل دون ماله فهو شهيد ومن قتل دون أهله فهو شهيد) فأين هؤلاء القوم من تلك النصوص.
لقد أوجب الشرع على أهل البلد المحتل أن يدافعوا عن أرضهم، وإن لم يكف يتعين على البلدان المحيطة بهم، فالأولى بهؤلاء المنتسبين للعلم أن يقوموا بالدعوة إلى نصرة أهل غزة، لا شيطنة من ينوب عن الأمة في دفع أعدائها الصائلين. ويدعي هؤلاء في حملات التشهير ضد المقاومة، أنهم من الإخوان، وهذا أمر بشع وسخيف لأسباب: أولها أن حركة حماس رغم جذورها الفكرية هي فكر الإخوان ومنهجهم، إلا أنها لا تندرج في تنظيم الإخوان المسلمين، ولديهم خيار استراتيجي بعدم التحرك خارج حدود فلسطين ضد الصهاينة. ثاني هذه الأسباب، حتى إن كانت حماس تنتهج دعوة الإخوان، فهل يتم تجاهل قضية شعب بأكمله ومقدساته فقط لأن الذي يتصدر المشهد فيها هم الإخوان؟ أيعقل أن يقول هذا إنسان له مسحة من عقل أو فهم.
هذه الثلة تقحم نفسها مع الأنظمة التي تلاحق تيار الإخوان وتسمح لنفسها بأن تكون أداة من أدواته، التي يستخدمها ضد هذه الجماعة، وبالتالي تناصب حركة حماس العداء لهذا السبب، مع أن الحركة لا تعمل إلا ضد عدو صهيوني محتل. ورغم الجهل بالواقع الذي عليه أكثر هذا التيار من الجامية والمداخلة وعلماء السلطة، تراهم يتهمون حماس بالجهل بالواقع وسوء تقدير المصالح والمفاسد، مع أنه كما يقال «أهل مكة أدرى بشعابها»، والقاعدة تقول «الحكم على الشيء فرع عن تصوره»، وهؤلاء يحكمون على أوضاع لم يعيشوها جيدا، ويفتون متكئين على الأرائك تحت أجهزة التبريد، عن واقع لم يشهدوه طرفة عين. وتراهم في هجومهم على المقاومة، صامتين صمت الأموات عن جرائم العدو الصهيوني، لا نسمع لهم صوتا إزاء هذه الاعتداءات الوحشية، فلا صوت لديهم يعلو على صوت الهجوم على المقاومة، فلا تدري في أي خندق هم، وهل هم شيوخ أم حاخامات. هؤلاء لم يعرفوا معنى الحرية، ولا معنى أن يكون تراب الوطن أسيرا لدى أعدائه، ولا قيمة النضال من أجل تحريره، يتجاهلون حقيقة أن التحرير لابد له من ضريبة، وأن الدفاع عن الأرض هو دفاع عن الدين الذي تمثله، وأن التضحية من أجل هذه الغاية أمر محمود شرعا وعرفا ومنطقا، فهؤلاء لن ينسى التاريخ تخاذلهم ولا تخذيلهم، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
وسوم: العدد 1061