حرب السلطة
سرف المداد
حتى نخرج من التعميمات المبسطة، والاختزال المعتسف، لهذه الهيجاء التي لم تأت مصادفة، تلك الكريهة التي تبيح طائفة من المحظورات التي يمتعض منها الدين، وتأباها الفطرة السليمة، وتنكرها الأخلاق، وتتحرج منها المؤسسة العسكرية، التي أجبرتها مليشيات البطش، والخطف، والاغتصاب، على خوض غمار هذه الحرب، حماية للدولة، وصوناً لها من مخاطر التشرذم والضياع، وبالرغم من أن القوة هي أخص ما تحرص المؤسسات العسكرية على أن تمتاز به من المظاهر، إلا أن هذه المؤسسة التي لم تؤثر عليها المداورة والالتواء، ما زالت تؤثر القصد والاعتدال في إظهار هذه القوة، بالرغم من سماجة المليشيا المتمردة وكيدها، هذه المليشيا التي ساء حالها، واضطرب أمرها، وأوشكت البلبلة أن تفسدها، لم تكن تعيش على نحو متبعثر متناثر قياساً على ما نعرفه عنها اليوم، فمن الحق أن نسأل أنفسنا لماذا تقتصد قواتنا المسلحة في إظهار قوتها، ولماذا تمضي مسيرة معاركها مع مليشيا الدعم السريع التي أوهت المروءة، وأخلقت أديمها، وطمرت الحياء وعفت آثاره في سوداننا بأفعالها المخزية، لماذا يحملنا الجيش على ما نكره؟ ويسوسنا بما لا نحب؟ ولماذا تمضي وتيرة هذه الحروب في بطء بطئ، وثقل ثقيل؟ لماذا لا يجهز جيشنا على طغمة السوء هذه ويريحنا من كل هذا العناء؟
إن جيشنا صاحب الذكر الجميل المأثور، والثواب الجزيل الموفور، له مجد لا تهتدي الأيام إلى فسخه، ولا ترتقي الليالي إلى نسخه، حتماً نحن نروم أن يمحق جيشنا المليشيا المتمردة محقاً، ويمحو الأوباش محواً، وأن ينكل ما استطاع إلى التنكيل بها سبيلاً، وألا يؤثر هذه الهدنات بالعناية أو الرعاية، فالشيء الذي يجب أن يحتفظ به جيشنا ويمضي فيه هو وأد هذه المليشيا، فما نعرفه ونستطيع أن نستنتجه بالظن، والحدس، والتجربة، أن أيّ هدنة تفرضها تلك الدول التي اشتهرت بولعها الشديد بمصانعة الغرب ومواددته، والحرص على أن تحتفظ بتقاليدها الراسخة التي تفضي في مجملها حول تأثيل مكانتها، فيسوء مثل هذه الدول أن يلحق باسمها وريادتها اهتضام، أو أن تنال أبهتها ومظاهر فخامتها نقص أو اخترام، كما أن بعض نخبها وحكامها يسعى جاهداً أن يخفي مظاهر الصحوة في السودان، لأجل ذلك فهو حريص ألاّ تظهر تقاطيع هذه الصحوة إلا ضئيلة غائرة خليقة ألا ترى؛ لا يريد هذا الشيطان أن نكون أحراراً في بلادنا، يريد هذا المسكين أن يرسم لنا قوام نظامنا الديمقراطي، بالرغم من أن الديمقراطية ليس لها صدى في دولته التي لا تفكر في مدلول هذه الكلمة، أو تلتفت إليها، لنفاذ شمولية الفرد واستبداده؛ إن الصورة التي صنعها هذا الشيطان باتقان، وحرفية عالية، هي مشاهد هذه الحرب التي تدور رحاها الآن في سوداننا المنكوب، والذي طمحت فيه ثلة طالما اعترض الشجى في حلوقها، والقذى في عيونها، إلى الحكم، وحتى ينتبه الساهي، ويتذكر اللاهي، ويتعظ المسرف، نسوق حديثنا هذا إلى فئات ستلاقي عباراته بشيء غير قليل من الانكار له، والازورار عنه، لا لشيء إلا لأنها تبغض الحركة الإسلامية التي لم يبق لها رأي ولا مشهد، وترى أنها من ابتدأت المنازعة، وتخطتها إلى المنازلة، وأنها هي من أجهضت الحكم المدني، وأهدت شعبها على مدار الأربعة أعوام المنصرمة القهر والفقر والفاقة والجهل والمرض، ولم تكتف هذه الجماعات التي شملها الفتور، وأخذ يشيع فيها الفناء بكل هذه التهم الجزاف، بل نسبت هذا الجيش العظيم برمته إلى الحركة الإسلامية، هذا الجيش الصامد على عرك الشدائد، والذي تحمل الميسور وغير الميسور من الجهد والتضحية في سبيل حمايتهم من العاديات، في مخيلة هذه الفئات أن الحركة الإسلامية وجيشها اللجب هم من أشعلوا أوار هذه الهيجاء، وأن مليشيا الخزي والعار التي تضيف لها محاسن تزعم أنها لا تتوفر في غيرها، وجدت نفسها مضطرة للدفاع عن وجودها وبقاء جرثومتها، وأن الجيش و"الكيزان" لم يحاربوا قوات "الدعم السريع" إلا لأنها ألحت واشتدت في الإلحاح بإقامة صروح الحكم المدني الذي يعيد الجيش إلى ثكناته، إذن هذه الناجمة تعتقد أن مليشيا "آل دقلو" إذا نجحت في مسعاها، وهزمت الجيش وحيدته، أنها ستمضي حتماً في تنفيذ بنود الحكم المدني دون تردد ولا إبطاء، وأن هذه القوات البربرية الهوجاء، التي رمت دارفور بنصالها المتصلة، وسهامها المتتابعة حتى أفنتها، هي من سترسي دعائم الحكم العادل الخالي من شوائب الظلم والطغيان؛ نقول لهذه الجماعات الحالمة إن طموح "الفريق أول خلاء حميدتي" هو ورهطه تخللته مقاومة ومعارضة مجتمعية سعت دول محور الشر مع طغام الأمم المتحدة، ويعاونهم زعيم تلك الدولة التي نقدر شعبها ونحترمه، الذي أثار الشهوات، ودفع الأهواء إلى الجموح، كما أنه من سعى لتذليل مناهضة شعبنا لتوغل آل دقلو بتطوير تحالف مع أقزام قحت الذين أظهروا في سيرتهم وأحاديثهم من خروج على الثوابت ما جعلهم محل بغض السودانيون واستيائهم.
إنَّ الحقيقة التي لا يرقى إليها شك، والواقع الذي لا تسومه مبالغة، أن قروم "قحت" الذين يؤثرون لذة العمالة على كل شيء، هم من زينوا بحبوحة الحكم للمأفون "حميدتي"، وأن الحكم في متناول يده، ما عليه إلا يبسطها ليأخذه متى شاء وكيف شاء، وصدق "حميدتي" كل ترهات "قحت" وخطرفتهم، وأنه حينها سيضم أرضاً إلى أرضه، ومالاً إلى ماله، وأنه أيضاً سيرد الكيزان فقراء بعد غنى، وأشقياء بعد سعادة، ولم يسئ "حميدتي" الظن بنفسه حينما صدق أضاليل "ياسر عرمان"، ولم يطل التفكير أو يقلب الرأي في مزاعم "غراب البين"، فليس للرجل حصاة أو أداة للفهم، كما أنه كان مأخوذاً بفكرة الحكم التي أوردته الآن المهالك. نعود الآن بعد هذا الاستطراد لأسئلتنا التي طرحناها، لماذا لا تستخدم قواتنا الباسلة القوة المفرطة التي تكفل طي ملف "الدعامة" وتجعل عكارتهم أثراً بعد عين، لأنها ببساطة تخشى عاقبة هذه القوة على أفراد شعبها، ولأنها تسعى لتضييق الخناق على هذه المليشيا التي تحدث نفسها الآن بالانصراف عن هذا القبر التي وضعت نفسها فيه، إن الظفر الذي يبتغيه "جرذان حميدتي" هو أن يفلتوا من العين اللصيقة التي ترقب تحركاتهم وترصد كل سكناتهم، قبل أن تحيلهم فوهات بنادقها إلى مصارع الردى، كما أن تكتيكات الحرب وخططها تقتصي الصبر والأناة، نحن نعرف حنكة هذا الجيش، ونعجب بدرايته ودهائه أشد الاعجاب، ونرى في مسيرته وعزمه فخراَ وأي فخر، وامتيازاً وأي امتياز. بقي أن نقول إن هذه الصور الدامية ستتلاشى، والأصوات المزعجة ستختفي، والأطياف المروعة ستتداعى، وستبقى تلك الأسئلة التي ما زالت تؤرق مضجعنا، من الذي مكّن لحميدتي حتى يمتد ويستطيل؟ ومن الذي أخفق في أن يريه ما يروعه؟ وأن يسمعه ما يخيفه؟ ويحذره من عواقب تحدي القوات المسلحة السودانية التي كانت تنظر إليه هو وجيشه في حب، وتنتظر اندماجهم في مكوناتها في أمل، بعد أن منحته من التأييد ما يجعله يمضي في سبيل تحقيق العزة والكرامة والأمن لهذا الوطن الكبير العاتي، ولكنه كعادته تمرد وخان فالخيانة طبعا راسخاً في شخصه.
وسوم: العدد 1075