ما بعد الوطن البديل
في إحدى المناسبات الاجتماعية، وبعد نقاش حول عمل لكاتب أردني، انتقل الحديث بشكل طبيعي إلى السياسة، كما هو معتاد في اللقاءات الأردنية سواء كانت مخططة أو عفوية. تطرق الحاضرون إلى الأوضاع الراهنة دون أن يضيفوا جديدًا أو يخوضوا في خلافات. إلا أن الكاتب قدم طرحًا غير متوقع عندما سأل: «من قال إن الوطن البديل ما زال مطروحًا لدى الإسرائيليين؟»
الوطن البديل مقولة ظهرت في الأردن بصورة واسعة تقوم على أساس النوايا الإسرائيلية لتفريغ الضفة الغربية من سكانها لتضعهم أمرا واقعا أمام الأردن، لتقوم بضم الضفة الغربية بالكامل، وإنهاء أي تصور ممكن للدولة الفلسطينية التي كانت في المقابل، الأداة الاستراتيجية في الخطاب السياسي الأردني، ولذلك بقيت السلطة الوطنية الفلسطينية، رهانا أردنيا يتواصل دعمها وإسنادها بصورة مفتوحة، حتى إن أبدت عمان تحفظات كثيرة على السلطة الوطنية الفلسطينية، كان آخرها من الملك عبد الله الثاني بصورة شخصية في الولايات المتحدة قبل تفجر الوضع في غزة بفترة وجيزة.
الأردنيون على مختلف المستويات يرون أن أي انتكاسة للمقاومة، ستشكل خطرا محدقا ببلادهم، وأن الفشل في تحقيق دولة فلسطينية سيفتح أسئلة أكثر صعوبة من الوطن البديل
التوسع الاستيطاني والإجراءات الإسرائيلية التعسفية لمحاصرة السلطة في مناطق محدودة من الضفة الغربية تتمثل في المدن الرئيسية، كان مؤشرا مقلقا على الدوام، فالفلسطينيون يتحولون إلى مجموعات بشرية شبه محاصرة، ويخضعون لضغوطات متصاعدة وصلت إلى التضييق المعيشي لدرجة الإفقار الممنهج، ومع ذلك تواصلت فكرة البقاء في الأرض والتمسك بها، وعمل الأردن من طرفه على تطبيق مجموعة من الإجراءات التحوطية التي تحول دون فقدان أهل الضفة الغربية من المقيمين في الأردن حقوقهم في الوثائق الثبوتية المتعلقة بحق الإقامة الكاملة في المناطق الفلسطينية. حل الدولتين وفقا للرؤية الأردنية كان يحقق للفلسطينيين دولة مؤهلة بالحدود الدنيا لاحتضان مجتمع طبيعي يحميه القانون الدولي، من غير التفاصيل المتعلقة بالتعريفات والقرارات الأممية السابقة التي خلقت تعقيدات للأوضاع القائمة، وأبقت على السلطة الوطنية كيانا يتصف بالقلق ويعيش تحت التهديد الوجودي المستمر، وفي الوقت نفسه، تكون هذه الدولة تعريفا لفلسطين، التي يرى البعض أنها يمكن أن تكون فلسطينية سكانا من غير أن تكون بالضرورة على أرض فلسطينية، وهذه المسألة لم تكن إسرائيلية صرفة وحسب، ولكن تورط فيها كاتب بحجم أحمد بهاء الدين، عندما أصدر سؤالا بعد حرب يونيو/حزيران 1967، تحول إلى كتاب بعنوان «اقتراح الدولة الفلسطينية» حول إقامة الدولة في الأردن وقطاع غزة، ويتجاهل بهاء الدين عامدا أو مستخفا، تسمية الضفة الغربية الشائعة بين الفلسطينيين والأردنيين، بما ينفي أي خلط أو جهل، وبشكل عام، أتى الرد الأولي المتضمن في الكتاب من قبل شفيق الحوت، بتفكيك ضمني للسؤال، وكأنه يقول بين سطوره، ألا يكفي أن نخسر فلسطين لنعرض الأردن، من أجل الإجابة عن أسئلة مجانية تقدم حلولا لمشاكل الآخرين؟ لا ترغب إسرائيل في نسختها العنصرية الصريحة والعدوانية من غير حدود، خاصة بعد الانكشاف المريع للجرائم اليومية في قطاع غزة، في تشكل مجتمع فلسطيني على حدودها، مجتمع يمكن أن يشكل نواة للثأر، يعيش داخل مجتمع يناصب هو الآخر فكرة إسرائيل العداء، فالأردن يضم أعلى نسبة بين سكانه للعرب عرقيا والمسلمين دينيا، وهي نسبة تفوق دول الخليج التي تضم (سكانيا) جاليات كبيرة غير عربية وغير مسلمة، والأردني يجد نفسه في حالة تناقض جوهري مع (إسرائيل) بقيت ضمن بحثه عن الهوية الرمزية متعمقة، ليفسر حتى وجبات طعامه بأنه المناقض لإسرائيل ثقافيا ووجوديا. وبما أن شهية العنف أصبحت مفتوحة على مصراعيها، وخطابات السلام داخل إسرائيل أصبحت نكتة سخيفة، فلماذا يبقى أصلا هذا المجتمع على حدوده، ولماذا يشكل أداة إسناد للفلسطينيين في الضفة الغربية، الذين يشكلون بدورهم حاضنة هوية بالنسبة لعرب 1948 المتحصلين على الجنسية والتمثيل السياسي في (إسرائيل)، وهل يمكن تفسير تراجع الأوضاع الاقتصادية في الأردن بصورة ضاغطة على أمنه الاجتماعي في المدى المتوسط والبعيد، بوصفه أحد الأدوات للتفريغ المأمول الذي يمكن أن يحقق الخريطة التي حملتها العصابات الصهيونية في مرحلة ما قبل الدولة في إسرائيل، وكيف يمكن تفهم وجود عملية تسرب واسعة يقطعها آلاف الشباب الأردني من أمريكا الوسطى إلى الولايات المتحدة بحثا عن فرص العمل، مع وصول معدلات البطالة إلى حدود مرهقة.
الأردنيون على مختلف المستويات يرون أن أي انتكاسة للمقاومة، ستشكل خطرا محدقا ببلادهم، وأن الفشل في تحقيق دولة فلسطينية سيفتح أسئلة أكثر صعوبة من الوطن البديل، الذي يبدو أنه لم يعد السؤال الصحيح في هذه المرحلة، إذ ينفتح على سؤال آخر، ماذا بعد فشل المشروع الفلسطيني، ليس على الأردن وحده، بل على كامل المنطقة بحيث تصبح مهددة في استقرارها وقدرتها على بناء مشروع وطني، وحتى الدول التي استثمرت في أوهام التطبيع، فما الذي يمكن أن تجنيه مع إسرائيل يقودها سموتريتش وبن غفير، كيف يمكنها أن تترجم أي مشاريع إقليمية مع كيان يعيش في أساطير ماضوية ونبوءات مرعبة مليئة بأعمدة النار والدخان؟ تسعى إسرائيل اليوم لتفكيك مقولة الفلسطيني بخلق أجواء شتات واسع تعوزه أي حاضنة ثقافية، وذلك بعد أن فككت مقولة فلسطين لتصبح مجموعة من المعازل التي تستبقي بعض الطاقة السكانية الفلسطينية لأداء أدوار وظيفية لمصلحة المشروع الإسرائيلي القابل للتوسع، والمسكون بالهلع الديمغرافي الذي يشكل العرب الأردنيون جزءا أصيلا منه، ربما يفوق في خطورته الأساسية مشاريع هي الأخرى إقليمية تعامل إسرائيل بوصفها منافسا من دون أن ترتقي إلى الخصومة الوجودية معها.
وسوم: العدد 1091